صانع الزمن: الوعاء الحجري الذي تحدى البركان والتاريخ
بقلم : دكتورة ميرنا القاضي
تصوير - Dave Robbins
في صمتٍ يتجاوز حدود التاريخ المدوّن، يقف وعاءٌ حجريّ صغير في متحف مانشستر يحمل الرقم 1776، للوهلة الأولى قد يبدو كمنحوتة حديثة ذات طابع تجريدي، غير أن الحقيقة أعمق بكثير: فهو وعاء من (الأنديزايت البورفيري) يعود زمنه إلى فترةٍ تسبق أقدم الفراعنة، وإلى عصرٍ لم تكن الكتابة الهيروغليفية قد وُلدت بعد، ولم تكن مسامير السومريين قد ضغطت طينها الأول.
لكن قبل ما نتكلم عن الوعاء نفسه تعال نرجّع الزمن لورا، لورا قوي
للحظة ما الأرض كانت بتتكسّر، والصفايح اللي تحت رجلينا كانت بتتزحزح وتخبط في بعض بقوة جبارة.
لحظة الجبال بتتشقق والنار بتطلع من قلب الأرض والبركان بينفجر عشان يكوّن حجر مايعرفش معنى السهولة.
في اللحظة دي اتولِد الحجر اللي اتعمل منه الوعاء:
الأنديزايت البورفيري.
كيف اتولِد الحجر؟
قصة صفائح وقارات ونار
الحجر ده مش بيتكوّن في أي مكان
ده بيتشكل في أطراف القارات، المناطق اللي الصفائح بتتقابل فيها وتدخل تحت بعض.
الضغط يزيد الحرارة تولّع الصخور تسيح
وبعدين يخرج البركان ويفضل الحجر جوّه يبرد ببطء.
البطء ده بيعمل بلورات كبيرة
وبعدين لما البركان يطلع الحجر للسطح فجأة… يحصل تبريد سريع يخلي حوالين البلورات أرضية ناعمة.
النتيجة؟
حجر شكله عامل زي سما حجرية نقط غامقة وسط خلفية فاتحة.
جمال طبيعي ربنا رسمه على نار وبركان.
الحجر ده لو مسكته هتفهم ليه الصنايعية كانوا يعتبروا شغله تحدّي
مادة بترفض تتشكّل ولا تقبل الغلط ولا تعيد من الأول.
حجر اتخلق في “حدّ” العالم وهو ده اللي خلّاه حجر صعب، قاسي، عنيد… بس جميل.
جميل لدرجة تخليك تنسي قد إيه تكوينه كان عنيف.
نيخن المدينة اللي اتولدت فيها الدولة
الوعاء اكتُشف في مدينة “نيخن” (هيراكونبوليس) في صعيد مصر.
واللي كانت في الوقت ده أهم مدينة في مصر العليا.
مكان السلطة، السياسة، الدين، وبداية مفهوم “الملك”.
المدينة دي كانت زي مركز التكنولوجيا بتاع زمان.
أفضل الصنايعية أذكى العقول أقوى ورش الصناعة.
واللي اشتغل على الحجر ده؟
ماكانش نجّار ولا حداد ولا عامل يومية.
ده كان فنّان من طبقة مخصوصة بيشتغل لحكّام وكهنة وناس مهمين جدًا.
الحجر اُكتشف داخل المخزن الطقسي الكبير المعروف باسم:
Main Deposit الطبقة الرئيسية
تحت معبد الإله “حورس” في نيخن.
وده المكان اللي لُقيت فيه أقدم الأعمال الفنية، والتماثيل، والأواني الحجرية الراقية اللي كانت مخصّصة للملوك والكهنة قبل عصر الأسرات.
إزاي عملوا حاجة بالصعوبة دي؟
الحجر ده مابيتشكّرش بسهولة.
ده محتاج صبر ووقت وشغل مش طبيعي.
١) التشكيل الأولي
كانوا يستخدموا حجارة أقسى، زي الديوريت، عشان يبدأوا يحددوا شكل الوعاء.
ضربة بعد ضربة بعد ضربة.
ساعات وأيام وشهور.
٢) الحفر الداخلي بالقوس
وده بقى الإنجاز الحقيقي.
يمسك صانع الوعاء عمود خشبي ويربطه بقوس، ويحط تحت العمود رمل كوارتز ناعم.
يمسّك القوس بإيديه ويبدأ يحرّكه يمين وشمال.
الحركة بسيطة لكن متكررة آلاف المرات.
وفي كل حركة الرمل يقطع جزء صغير من الحجر.
ببطء ببطء لحد ما يبقى فيه تجويف مظبوط وكأنه اتعامل بماكينة.
٣) الصنفرة والتنعيم
بعد كده يدخلوا مرحلة السّحل.
رمل مية حركة دايرة على الحجر.
لحد ما السطح يبقى ناعم لدرجة إنك تلمسيه وتحسي إنه قطعة زجاج مش صخر.
٤) التفاصيل الدقيقة زي “الأودان” الجانبية
ودي محتاجة دقة ومهارة مش عادية.
لو نقرتي نقرة غلط الحجر كله يبوظ.
ومع ذلك اتعملت بإتقان يخليكِ تحترم اللي اشتغل عليها من آلاف السنين.
ليه عملوا وعاء زي ده؟
إحنا عارفين إنه صعب وعارفين إنه غالي وعارفين إنه محتاج شهور.
فهل كانوا بيحطوا فيه أكل؟
أبدًا.
الوعاء ده كان حاجة مقدّسة غالبًا.
منها:
وعاء لزيوت طقسية
إناء جنائزي لحد مهم
رمز ملكي أو سلطة
أو حتى قطعة بتتقدم في طقس ديني قوي
طب إزاي وصل الأنديزايت البورفيري للمصريين؟
الحجر مش مصري وده أول مفتاح
الأنديزايت البورفيري مافيش جبال بتنتجه في مصر.
ده حجر بركاني بيتكون في أطراف القارات والمناطق البركانية العنيفة أما مصر فجبالها رسوبية ونارية قديمة بس مش من النوع اللي يطلّع أنديزايت بورفيري.
يعني الوعاء نفسه يشهد إنه جاي من برا.
طب جه منين؟ فيه احتمالين كبار:
الاحتمال الأول: تجارة بعيدة المدى قبل التاريخ
قبل ما تبقى فيه كتابة كان فيه طرق تجارة قديمة بين:
جنوب الأناضول (تركيا الحالية)
شمال بلاد الشام
سواحل البحر الأحمر
ووديان سيناء
دي كلها مناطق معروفة بالأنديزايت.
المصريين قبل التاريخ كانوا بيجيبوا:
لازورد من أفغانستان
نحاس من سيناء
صدف من البحر الأحمر
فطبيعي جدًا يوصل لهم حجر نادر زي ده عن طريق تبادل، هدايا، أو تجارة خام.
الاحتمال الثاني: الحجر وصل ككتلة خام عبر البحر الأحمر
مدن ما قبل الأسرات في مصر العليا زي نيخن، نقادة، وأبيدوس كانت على صلة قوية بالبحر الأحمر.
ناس من وادي النيل كانوا بيطلعوا بعثات للصيد والتجارة، ويتواصلوا مع:
سواحل اليمن
جنوب الجزيرة
مناطق بركانية في القرن الإفريقي
والأنديزايت موجود بكثرة على الضفة المقابلة للبحر الأحمر.
يعني وارد جدًا إن الحجر اتجاب كـ كتلة خام على قارب خشبي بسيط زي ما كانوا بيجيبوا الأصداف واللؤلؤ والأحجار الغريبة.
طب ليه المصريين اهتموا بحجر من بعيد؟
لأن: لونه مميز جدًا
شكله فيه بلورات جميلة نادرة
صلب للغاية (رمز للقوة والتحمّل)
وكان حجر “غريب” والغريب دايمًا مقدّس عند المصري القديم
زي ما اللازورد كان رمز للسماء
الأنديزايت كان بالنسبة لهم حجر مولود من نار البركان يعني حجر “قوي” ينفع في الطقوس.
وبعدين اتنحت في ورش محترفة في مدينة نيخن اللي كانت مركز الصناعة قبل عصر الأسرات.
سفير من زمن مش بنسمع صوته
دلوقتي الوعاء واقف في صالة متحف مانشستر، ساكت.
بس سكوت الحجر ده أعلى من صوت خطبة.
هو شاهد على:
مدينة اتولدت فيها فكرة الدولة
صانع عبقري عاش قبل التاريخ
حضارة كانت بتدور على الجمال مش على الضروريات
إنسان أراد يخلّد نفسه فخلّدها فعلًا
لما تبص له بتشوف إن الحضارة المصرية ماكانتش فجأة.
دي خطوات صغيرة يمكن بس عظيمة جدًا.
وكل خطوة منهم عملت نقلة… وكل نقلة صنعت تاريخ.
الوعاء مش مجرد صخرة محفورة.
ولا مجرد أثر في متحف.
ده رسالة من أجدادنا بتقول:
“من آلاف السنين كنا صُنّاع جمال.
وإيد الإنسان لما تتحدّى المادة تقدر تغلب الزمن.”
