تحوت إلى هرمس : رحلة الحكمة المصرية من الهيروغليفية إلى الكونية
رحلة داخل الكتب الهرمسية وتحليل نصوصها الكبرى
كتبت - د. ميرنا القاضي
"يا من تسأل ، اقرأ لا بعينيك، بل بقلبك فإن الكلمة ما هي إلا باب ، خلفه النور الذي لا يُوصف"
في ظلال المعابد المصرية، وتحت طيات الحرف الهيروغليفي، كان هناك صوتٌ لا يُسمع إلا بالروح , صوتٌ نُسب إلى "تحوت" إله الحكمة، المرسوم برأس طائر أبي منجل، لكنه في الحضارات المتأخرة عُرف باسم "هرمس الهرامسة".
وحين امتزجت مصر باليونان في عاصمة الفكر الإسكندرية، وُلدت نصوص عُرفت لاحقًا باسم "الكتب الهرمسية" وهي خلاصة الفلسفة المصرية القديمة بعد أن تجرّدت من الطقوس وارتفعت إلى المجردات.
ما هي الكتب الهرمسية؟
هي مجموعة من النصوص الفلسفية والروحانية، منسوبة إلى هرمس المثلث العظمة – Hermes Trismegistus وهي الاسم المتأخّر لـ تحوت المصري الذي عُدّ في التراث الإسلامي هو النبي إدريس عليه السلام.
ظهرت هذه الكتب في الإسكندرية
(من القرن 2 ق.م حتى 3 م)، لكنها تحمل في جوهرها روحًا مصرية خالصة أعيدت صياغتها بلغات يونانية ولاتينية.
وأهم ما يميزها هو مزجها بين الفلسفة والروحانية، وبين العلم والمقدّس، وبين الإنسان والكون.
نصوص الكتاب الهرمسي : لمحات وتحليل
1. نص "بيماندر" (Poimandres): حوار العقل والنور
هو النص الأول والأهم في مجموعة كوربوس هرمتيكم.
يحكي عن تجربة رؤيا صوفية يخوضها هرمس، حين يظهر له كائن نوري يُدعى "بيماندر" (العقل الكوني)، ويبدأ معه حوارًا عن أصل الكون، والخلق، والروح ومصير الإنسان.
أهم الأفكار:
الله هو الواحد الأزلي، لا يُدرك بالحواس، وكل شيء نابع من العقل الأول (Nous).
الإنسان كائن إلهي، فيه قبس من النور لكنه سقط في المادة، وهدفه العودة إلى النور عبر المعرفة والتطهير.
العالم المادي زائل، والروح خالدة والصعود إلى الإله يتحقق بالتأمل والعرفان.
اقتباسات:
"أنا العقل، نور العالم، الذي وُجد قبل الظلمة،من عرفني، عرف كل شيء."
"لقد خلقتك أيها الإنسان على صورتي لأني أحبك، ووهبتك النطق والعقل."
"الجهل هو الموت، والمعرفة حياة أبدية."
تحليل:
"بيماندر" ليس مجرد حوار لاهوتي، بل خريطة روحية تُرشد الباحث إلى أصل النور. أسلوبه يذكّرنا بالتعاليم المصرية القديمة عن الروح، مثلما في "كتاب البوابات" و"نشيد آتون"، لكن بلغته الكونية الخاصة.
2. نص "أسكليبيوس" (Asclepius): في شؤون الإنسان والكون
هو نص أقرب إلى خطبة فلسفية، موجّه من هرمس إلى تلميذه أسكليبيوس يتناول فيه موضوعات الطب، الروح السياسة، العبادة، والخلق.
أهم الأفكار:
الكون حي، نابض، وكل جزء فيه يتفاعل مع الجزء الآخر.
الإنسان هو "العمل الأعظم"
(Magnum Opus) يحمل بداخله الإلهي والبهيمي.
الكهنة ليسوا رجال دين فحسب، بل علماء روح، وأطباء كونيون، يعملون على شفاء الأرض.
اقتباسات.
"كما في السماء كذلك على الأرض، وكما في النفس كذلك في الجسد."
"الإنسان هو معبد الله من عرف نفسه
عبد ربّه بحق"
"الطب ليس دواء الأجساد فقط، بل دواء الأرواح المريضة بالجهل والشهوة."
تحليل:
"أسكليبيوس" يمد الجسر بين الحكمة المصرية القديمة وبين الطب، والطب هنا روحاني شمولي، لا ميكانيكي. وهو يربط بين الإنسان والكون بعلاقة مقدسة تُعيدنا إلى طقوس الكهنة المصريين الذين كانوا يُمارسون الطب والفلك والديانة في آنٍ واحد.
بين النصوص والهيروغليفية: مصر في قلب الكتاب
تحوت المصري (هرمس) هو كاتب الآلهة، وراعي "ماعت" (الحق الكوني) في النصوص الهرمسية، يعود كـ
"العقل المتكلم"
مصطلحات مثل: "النور"، "القلب" "الصعود"، "التطهير" لها أصول في اللاهوت المصري القديم.
التشابه واضح مع تعاويذ كتاب الموتى لكن الكتب الهرمسية تخاطب الأحياء الباحثين عن النور، لا الموتى الباحثين عن النجاة.
علاقة الكتب الهرمسية بالتصوف والخيمياء
هذه النصوص ألهمت:
الفلاسفة المسلمين مثل الفارابي وابن عربي
الخيميائيين الأوروبيين
(الخيمياء = al-kīmiyāʾ = العلم الإلهي)
القبّالية اليهودية، والمدارس الباطنية المسيحية
فكلها اقتبست من هذه النصوص رؤية الإنسان كمرآة للإله، والطبيعة ككتاب مقدّس.
مقارنة بين الكتب الهرمسية و"الجفر" و"نهج البلاغة" و"الزوهار"
هل للكتب الهرمسية نظائر في الديانات الأخرى؟ نعم، وبشكل مذهل:
الجفر (نصوص منسوبة للإمام علي): تتحدث عن العلم اللدنّي، والمستقبل ومفاتيح الغيب. وتتشارك مع الهرمسية في أن "الحق لا يُعرف بالعين، بل بالبصيرة."
نهج البلاغة: تجد فيه خطبًا عن الكون والخلق، والنفس، بأسلوب يجمع بين البلاغة والعرفان. كما في قول الإمام: "دواؤك فيك، وما تشعر، وداؤك منك وما تُبصر." وكأنه صدى لهرمس حين قال: "من أراد أن يرى الله، فلينظر في نفسه حين يتطهّر."
الزوهار (Zohar): كتاب التصوف اليهودي، يقول إن النور هو الأصل، وإن الإنسان هو الحرف الذي ينطق الله من خلاله. وهي مفاهيم تنتمي صراحة للفكر الهرمسي.
المدارس الباطنية المسيحية: كالروزكروشيين، الذين رأوا في هرمس مرشدًا خفيًّا للمعرفة الإلهية.
الفكرة المشتركة: الإنسان مرآة للكون وكل نصّ مقدّس ليس للقراءة، بل للانكشاف الداخلي.
المبادئ السبعة للفلسفة الهرمسية
بين السطور، تختبئ شيفرة الكون
استنادًا إلى النصوص الهرمسية (خاصةً كتاب "الكيباليون" الذي يُعدّ خلاصة التراث الهرمسي)، تُوجَز المبادئ الكونية السبعة التي تحكم الوجود كالتالي:
1. مبدأ العقلانية (Mentalism)
"الكون عقلٌ لا متناهٍ"
- كل المادة والطاقة في الكون هي نتاج "عقل إلهي" (Nous).
- العالم المادي ظاهرة عقلية، والإنسان قادر على تشكيل واقعه عبر الفكر.
2. مبدأ التناظر (الترابط)
"كما في الأعلى كذلك في الأسفل، كما في السماء كذلك على الأرض"
- الكون نظام متكامل: القوانين نفسها تحكم المستويين المادي والروحي.
- مثال: دورات الطبيعة (الموت/الولادة) تعكس صعود الروح ونزولها.
3. مبدأ الاهتزاز (Vibration)
"لا شيء ساكنٌ، كل شيء يتحرك، كل شيء يهتز"
- المادة والطاقة والروح تختلف في ترددات اهتزازها فقط.
- المعرفة العليا تُكتسب بضبط اهتزاز النفس (عبر التأمل).
4. مبدأ القطبية (Polarity)
"كل شيء ثنائي، كل الأضداد متطابقة في طبيعتها"
- المتضادات
(كالخير/الشر، الحرارة/البرودة)
وجهان لنفس الجوهر.
- تغيير الطاقة السلبية إلى إيجابية يتم بتحويل القطب.
5. مبدأ الإيقاع (Rhythm)
"لكل فعل رد فعل، لكل صعود نزول"
- الكون يسير بدورات متبادلة
(ليل/نهار، حرب/سلام).
- الحكيم يتجاوز التأرجح بالتوازن الداخلي.
6. مبدأ السببية (Cause and Effect)
"كل سبب له معلول، كل معلول له سبب"
- الصدفة وهم، وكل حدث نتاج قانون كوني.
- تحرر الإنسان يتم بفهم الأسباب الخفية وراء الأحداث.
7. مبدأ الجنسين (Gender)
> "الجنس في كل شيء، الذكر والأنثى في كل مخلوق"
- الذكورة (فاعل) والأنوثة (منفعل) قوتان متكاملتان في الخلق.
- يتجلى في الطبيعة (التلقيح) وفي النفس (العقل/الحدس).
أين وُجدت كتب هرمس؟ وكيف كُشف عنها؟
رحلة المخطوطات من المعابد إلى الأكاديميات
وهو فصل مهم جدًا لربط كل نص هرمسي بمكان اكتشافه، وتاريخه، وكيف وصل إلينا.
أين وُجدت كتب هرمس؟ وكيف كُشف عنها؟
من رمال نجع حمادي إلى مخطوطات فلورنسا ، حكاية اكتشاف الحكمة المفقودة ،على عكس ما قد يتصوّره البعض، لم تُكتشف "الكتب الهرمسية" كلها في مكانٍ واحد، بل ظهرت متفرقة على مدار قرون، في لغات ومناطق مختلفة
ثم جُمعت لاحقًا تحت اسم Hermetica.
وهنا نفصّل لكِ أين وُجد كل جزء، وكيف خرج من الظل إلى النور:
1. نص "الخطاب عن الثامن والتاسع" (Discourse on the Eighth and Ninth)
مكان الاكتشاف: منطقة جبل الطارف
نجع حمادي، مصر
سنة الاكتشاف: 1945
اللغة: قبطية (لهجة صعيدية)
الوعاء المخطوطي: الكودكس السادس مكتبة نجع حمادي
النوع: نص هرمسي غنوصي صوفي
كيفية اكتشافه:
عُثر عليه ضمن مجموعة ضخمة من المخطوطات في جرة فخارية، على يد فلاحين محليين.
وكان محفوظًا مع نصوص غنوصية أخرى، مما يُظهر أن الهرمسية في صعيد مصر لم تكن فلسفة فحسب، بل ممارسة روحية.
أين هو الآن؟
معظم النسخ الأصلية محفوظة في المتحف القبطي بالقاهرة، مع نُسخ مصوّرة في مكتبات عالمية.
2. نصوص "كوربوس هرمتيكم" (Corpus Hermeticum)
مكان الاكتشاف: لا تعود إلى اكتشاف ميداني حديث، بل تُحفظ في مخطوطات قديمة بأوروبا
أقدم مخطوطة: Codex Laurentianus – مكتبة لورينتسيانا فلورنسا، إيطاليا
اللغة: يونانية
الزمن: نصوص كُتبت في مصر بين القرن 1 ق.م و3 م، وجُمعت في عصر النهضة
كيفية اكتشافها/نشرها:
في عام 1463، أمر كوزيمو دي ميديشي بترجمتها من اليونانية إلى اللاتينية على يد مارسيليو فيتشينو، معتقدًا أنها أقدم من أفلاطون.
الترجمة أعادت إحياءها في عصر النهضة الأوروبي، وأثّرت في مفكرين مثل بيكو ديلا ميراندولا وجيوردانو برونو.
أين هي الآن؟
المخطوطة الأصلية في فلورنسا وطبعاتها الكاملة نُشرت لاحقًا في أكاديميات مثل أكسفورد وهارفارد.
3. نص "أسكليبيوس" (Asclepius)
اللغة: لاتينية
(مع أجزاء قبطية مفقودة)
المصدر الأصلي: ترجمة لاتينية للنص اليوناني المفقود
المكان: وُجدت مخطوطاته في مكتبات أوروبية، أقدمها في الفاتيكان
كيفية وصوله إلينا:
كان محفوظًا ضمن مؤلفات تُنسب لعلماء وفلاسفة، واعتُبر نصًا روحانيًا/طبيًا مهمًا في العصور الوسطى.
النسخ التي وصلت إلينا تختلف قليلاً
لكن جوهر النص واحد: الإنسان والكون كجسدين متوازيين.
أين هو الآن؟
نسخه الأصلية محفوظة في مكتبة الفاتيكان، ومتاح بنسخ مترجمة في جامعات كبرى.
4. "كوري كوزمو" (Kore Kosmou) عذراء الكون
اللغة: يونانية
الاكتشاف: ليس ميدانيًا، بل أدبيًا وُجد ضمن كتابات لاحقة جمعها الفلاسفة البيزنطيون
الزمن: يرجح أنه صيغ في مصر في القرن الثاني الميلادي، لكنه دُمج ضمن التراث النيو-أفلاطوني
أين هو الآن؟
نُشر ضمن مؤلفات "هيرميس الهرامسة" في مجموعات فلسفية يونانية، مثل مجموعة ستوبايوس.
5. شذرات ستوبايوس (Stobaeus Fragments)
المكان: اقتباسات حفظها الفيلسوف "يوحنا ستوبايوس" في القرن الخامس الميلادي
اللغة: يونانية
المصدر: مدينة منوبيوليس (الواقعة في مقدونيا، اليونان اليوم)
أهميته:
أنقذ هذا الكاتب أجزاء كبيرة من نصوص هرمسية فُقدت، عن طريق تضمينها في موسوعته الأخلاقية.
أين تُحفظ؟
نُشرت ترجماتها ضمن مجموعات الفلسفة الأخلاقية اليونانية – موجودة في أغلب مكتبات الفلسفة الكلاسيكية.
خريطة الاكتشاف: مصر ثم أوروبا
ثم العودة.
النص مكان الاكتشاف اللغة مكان الحفظ الحالي.
الخطاب عن الثامن والتاسع نجع حمادي، مصر قبطيةالمتحف القبطي + هارفارد
كوربوس هرمتيكم فلورنسا إيطاليا يونانية مكتبة لورينتسيانا
أسكليبيوس الفاتيكان لاتينية مكتبة الفاتيكان ، كوري كوزمو اليونان الإسكندرية يونانية مجموعات بيزنطية فلسفية شذرات. ستوبايوس مقدونيا يونانية موسوعات كلاسيكية فلسفية.
ضمن الرمل إلى الروح
كل كتاب من كتب هرمس خرج من تربة مختلفة، لكن جميعها تشمّ رائحة مصر القديمة، وتتكلم بلسانها الخفي.
من جرة في صعيد مصر، إلى مخطوط في فلورنسا، إلى همسات في الفاتيكان
إنها أصوات تحوت القديمة، وهي تعود لتُنصت إليها الأرواح الباحثة.
مصر حين كتبت الخلود بلغة الروح
من مصر خرجت الحكمة، وتوزّعت على العالم في ألف لسان لكنها تعود الآن لمن يسمعها بالقلب.
فهرمس لم يكن نبيًّا لحضارة، بل ناقلًا لصوتٍ أقدم صوت الروح.
الكتب الهرمسية ليست مجرد بقايا غنوصية، بل مرآة للفكر المصري العميق حين خرج من المعابد وراح يبحث عن الإنسان الكامل.
وفي زمننا، حيث ضاعت الحِكمة بين ضجيج الحداثة، تعود هذه النصوص لتذكّرنا:
أن النور لا يُنال بالحواس
وأن الحقيقة لا تُقال، بل تُذاق
كما قال هرمس:
"من أراد أن يرى الله، فلينظر في نفسه حين يتطهّر."



