وزير الأوقاف في الحلقة الثالثة من "رؤية"
متابعة _ ياسمين أحمد المحلاوى
في إطار نشر الفكر الوسطي المستنير ، وإعادة قراءة النص في ضوء متطلبات وقضايا عصرنا الحاضر ، وإسهامًا في بناء الوعي الرشيد ، تحدث معالي أ.د/ محمد مختار جمعة وزير الأوقاف في ثالث حلقات برنامج "رؤية" عن "الصدق" ، مؤكدًا أن رمضان هو شهر الصدق، والصدق تحقيق لمعنى الصيام في الأقوال والأفعال، حتى إن بعض العلماء عرَّف الإيمان بأنه: الصدق ؛ فقال : الإيمان الحقيقي : أن تقول الصدق مع ظنك أن الصدق قد يضرك ، وأن لا تقول الكذب مع ظنك أن الكذب قد ينفعك ، ذلك لأن المؤمن يدرك أنَّ ما أصابه لم يكُنْ لِيُخطِئَه ، وما أخطأَه لم يكُنْ لِيُصيبَه، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) : "يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ"، والمؤمن لا يمكن أن يكون كذابًا أبدً، يقول الحق (سبحانه وتعالى): "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ".
كما وضح معاليه أن الصدق من أهم سمات المؤمنين، يقول سبحانه: "إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا"، والصدق طمأنينة، كما جاء في حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) فالإنسان الصادق مطمئن ، لأن الكذَّاب مهما طال الزمن، ومهما احتال، ومهما بالغ لابد أن ينكشف كذبه، ويكفي الإنسان الكذاب أن يوسم بأنه كذاب، ويكفي الصادق أن يوصف بأنه صادق أمين، ثم إن الصدق لا يقف عند حدود الأقوال، إنما نتطلب الصدق في الأقوال، والصدق في الأفعال، أما الصدق في الأقوال فأمر هام، لأن الكذب يمحق بركة الأعمال كلها بما فيها الصيام، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به فليسَ لِلَّهِ حاجَةٌ أنْ يَدَعَ طَعامَهُ وشَرابَهُ"، أي كأنه ليس له من صومه إلا الجوع، والعطش، والتعب، لأن الكذب يمحق البركة، فمن لم يدع الكذب، لم ينتفع بشيء بعد ذلك، لأن الكذب من ألوان وعلامات النفاق والمنافقين، وكما تحدث الإسلام، وحثنا على الصدق في الأفعال، تحدث عن الصدق في الأقوال، فقال سبحانه: "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا"، وأسلم أحد الأعراب مع سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثم هاجر معه، وفي يوم من الأيام جاءت للنبي (صلى الله عليه وسلم) بعض الغنائم فقسم له قسمًا، ودعاه أصحابه ليأخذ قسمه من سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فلما جاء الرجل قال لسيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : "ما على هذا بايعتك ولا على هذا اتبعتك" ، أي: أني لا أريد شيئا من هذه الغنائم، فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم) : "على ما بايعتني، وعلى ما اتبعتني، وعلى ما عاهدتني" ، قال : على أن أؤمن بك، فأهاجر معك، فأقاتل معك في سبيل الله، فأُرمَى بسهم هاهُنا ، (وأشارَ إلى منطقة من لبابه) فأقتل في سبيل اللهَ فأدخلَ الجنَّةَ" ، وما هي إلا أيام يسيرة حتى كان يوم من أيام ملاقاة النبي (صلى الله عليه وسلم) لأعدائه، فأبلى الرجل بلاءً حسنًا حتى استشهد في سبيل الله بسهم في المنطقة التي أشار إليها، وأتي به محمولًا إلى سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فقالَ رسول الله (صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ) : أَهوَ هوَ؟، أي: هذا هو الرجل الذي قال: أريد أن أقاتل معك، فأُرمى بسهم هاهنا ، فأستشهد في سبيل الله، فأدخل الجنة، قالوا: هو هو يا رسول الله، فقالَ (صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ): صدقَ اللَّهَ، فصدقَهُ الله، اللَّهمَّ إنَّ هذا عَبدُكَ، خرجَ مُجاهدًا في سبيلِكَ، فاستشهد في سبيلك، أنا على ذلك شَهيد، وكفَّنَه النبي (صلى الله عليه وسلم) في جبته الشريفة" ، والصدق ينجي وقت الشدائد فعندما دخل ثلاثة في كهف من الكهوف يأووا إليه فجاءت صخرة كبيرة فأغلقت باب الكهف فقالوا ليس لكم إلا الصدق فليتحدث كل منكم بالصدق فليدع كل منكم بدعاء رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى آوَاهُمُ الْمبِيتُ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فانْحَدَرَتْ صَخْرةٌ مِنَ الْجبلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمْ الْغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوا الله تعالى بصالح أَعْمَالكُمْ قَالَ رجلٌ مِنهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوانِ شَيْخَانِ كَبِيرانِ، وكُنْتُ لاَ أَغبِقُ قبْلهَما أَهْلاً وَلا مالاً فنأَى بِي طَلَبُ الشَّجرِ يَوْماً فَلمْ أُرِحْ عَلَيْهمَا حَتَّى نَامَا فَحَلبْت لَهُمَا غبُوقَهمَا فَوَجَدْتُهُمَا نَائِميْنِ، فَكَرِهْت أَنْ أُوقظَهمَا وَأَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلاً أَوْ مَالاً، فَلَبِثْتُ وَالْقَدَحُ عَلَى يَدِى أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُما حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ وَالصِّبْيَةُ يَتَضاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمي فَاسْتَيْقظَا فَشَربَا غَبُوقَهُمَا ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَة، فانْفَرَجَتْ شَيْئاً لا يَسْتَطيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهُ، قَالَ الآخر: اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانتْ لِيَ ابْنَةُ عمٍّ كانتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ وفي رواية: كُنْتُ أُحِبُّهَا كَأَشد مَا يُحبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءِ، فَأَرَدْتُهَا عَلَى نَفْسهَا فَامْتَنَعَتْ مِنِّى حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ فَجَاءَتْنِي فَأَعْطَيْتُهِا عِشْرينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّىَ بَيْنِى وَبَيْنَ نَفْسِهَا ففَعَلَت، حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا وفي رواية: فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْليْهَا، قَالتْ: اتَّقِ اللهَ وَلاَ تَفُضَّ الْخاتَمَ إِلاَّ بِحَقِّهِ، فانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهِىَ أَحَبُّ النَّاسِ إِليَّ وَتركْتُ الذَّهَبَ الَّذي أَعْطَيتُهَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعْلتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فانفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا. وقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجرَاءَ وَأَعْطَيْتُهمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذي لَّه وَذَهبَ فثمَّرت أجْرَهُ حَتَّى كثرت منه الأموال فجاءني بَعدَ حِينٍ فَقالَ يَا عبدَ اللهِ أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي، فَقُلْتُ: كُلُّ مَا تَرَى منْ أَجْرِكَ: مِنَ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَم وَالرَّقِيق فقالَ: يا عَبْدَ اللَّهِ لا تَسْتهْزيْ بي، فَقُلْتُ: لاَ أَسْتَهْزيُ بِكَ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فاسْتاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْه شَيْئاً، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتغَاءَ وَجْهِكَ فافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فخرَجُوا يَمْشُونَ "، ولذا كانت السيدة خديجة (رضى الله عنها) تقول لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) : "كلا، أبشر، فو الله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق" ،فجعلت صدق الحديث دليل على رضوان الله ، الصادق محفوظ من الله، قال النبي (صلى الله عليه وسلم): "إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقًا، وإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حتَّى يُكْتَبَ كَذّابًا"، والخلاصة : النوع الأول من أنواع الصدق هو: الصدق في الأقوال: بحفظ اللسان من الكذب، هذا هو النوع الأول، والكذب كما أكدنا وبيَّن نبينا (صلى الله عليه وسلم) من أخص علامات المنافقين، والنوع الثاني من أنواع الصدق : الصدق في الأفعال أن تصوم صومًا حقيقيًا، وأن تؤدي صلاتك بإتقان، وأن تؤدِّي زكاتك تامَّةً غير منقوصة، ومن أهم أنواع الصدق في الأفعال، وبخاصة في هذا الشهر الكريم، وفي أوقات الأزمات، والظروف، والجوائح، والنوائب، الصدق في البيع والشراء، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "البَيِّعانِ بالخِيارِ ما لَمْ يَفْتَرِقا"، أو قال (صلى الله عليه وسلم): "حتَّى يَتَفَرَّقا ، فإنْ صَدَقا وبَيَّنا بُورِكَ لهما في بَيْعِهِما، وإنْ كَتَما وكَذَبا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِما"، وفي الحديث القدسي ، يقول رب العزة: "أنا ثالثُ الشَّريكينِ، ما لم يَخُنْ أحدُهما صاحبَه؛ فإذا خانَه خرَجتُ من بينِهما"، فالصدق في البيع، الصدق في الشراء، بعض الناس يريد أن ينفق سلعته أي أن يروجها بالحلف الكاذب، من يحلف كاذبًا، أو من يكذب في بيعه أو شرائه يعرض ماله للمحق، وللهلاك في الدنيا، ويأكل سحتًا ويطعم أهله سحتًا لأنه أخذ المال بالحلف الكاذب، نحذِّر تحذيرًا بالغًا ممن يكذبون في بيعهم، أو في شرائهم أو يقسمون أقسامًا مغلظة ليروج لسعته كذبًا ، إذًا نحتاج إلى الصدق في الأقوال، وإلى الصدق في الأفعال، وهناك الصدق في الأحوال؛ أحوال القلوب، بأن لا يدعي الإنسان الصلاح كذبًا، أو التزهد كذبًا، الصدق في الأحوال: بإخلاص القلب، وصدق النية مع الله (عز وجل)، يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه"، رمضان شهر الصِّدق، الصدق في الأقوال، فلنحفظ ألسنتنا من الكذب، الصدق في الأفعال وبخاصة في البيع، والشراء، والتعامل، والصنعة، والإتقان، الصدق في الأحوال: بصدق النية مع الله، نسأل الله العلي العظيم أن يجعلنا في هذا الشهر الكريم من الصادقين قولًا، وفعلًا، وسلوكًا، وحالًا، ونيةً، وإخلاصًا مع الله (عز وجل)، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
