recent
أخبار ساخنة

دور القانون المدني في حماية المتعاقدين في عصر الرقمنة

 دور القانون المدني في حماية المتعاقدين في عصر الرقمنة



بقلم : د صابر عبد المنعم

يشهد العالم في العقود الأخيرة تحولاً جذرياً نحو الرقمنة، حيث أصبحت المعاملات الإلكترونية جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية، بدءاً من التعاقدات التجارية الكبرى وصولاً إلى عمليات الشراء البسيطة عبر الإنترنت، هذا التطور التقني المتسارع أفرز بيئة تعاقدية جديدة تتجاوز حدود المكان والزمان، ما استدعى تكييفاً قانونياً يتناسب مع طبيعة المعاملات الرقمية ويضمن مستوى معقولا من الثقة والأمان القانوني ، ومن هنا برزت أهمية القانون المدني بوصفه الإطار الناظم للعلاقات التعاقدية والمسؤول عن توفير الحماية القانونية للمتعاقدين في ظل التحديات التي يفرضها العصر الرقمي.



أول ما يلفت النظر في البيئة الرقمية هو تغيّر مفهوم التعبير عن الإرادة، حيث لم يعد يتطلب حضور الأطراف أو توقيعهم الخطّي، بل يكفي الضغط على زر أو إرسال رسالة إلكترونية ليتم إبرام العقد ، وهذا التحول دفع القانون المدني إلى تبني اعتراف واضح بالعقود الإلكترونية واعتبارها مساوية في الحجية للعقود التقليدية، بشرط توافر عناصر الرضا، والمحل، والسبب  كما ظهر مفهوم التوقيع الإلكتروني كأداة تقنية ذات حجية قانونية تعادل التوقيع العادي، شريطة أن تكون آمنة وقابلة للتحقق من هوية الموقع، مما يعزز الثقة المتبادلة بين الأطراف ويحدّ من مخاطر إنكار التعاقد.



إلى جانب ذلك، يضطلع القانون المدني بدور جوهري في مكافحة الغموض والاحتيال الإلكتروني، إذ أن البيئة الرقمية قد توفر فرصاً أكبر للتحايل والتلاعب بالبيانات. 

ولذلك عمل المشرّع المدني في العديد من الدول على تأكيد مبدأ الإعلام المسبق، الذي يُلزم الطرف القوي اقتصاديًا أو تقنيًا (كالمنصات الرقمية ومزوّدي الخدمات) بتقديم معلومات واضحة ومفهومة حول طبيعة الخدمة أو السلعة، وبيان شروط التعاقد، وحقوق المستهلك والتكاليف الإضافية إن وجدت. 

إن هذا المبدأ يعدّ إحدى ضمانات الثقة القانونية التي تمنع إخفاء البيانات الجوهرية أو تضليل المتعاقد الضعيف.



كذلك عزّز القانون المدني مفهوم حماية المتعاقد الضعيف في البيئة الرقمية، سواء كان مستهلكاً أو مستخدماً عادياً للمنصات، فقد فرضت التشريعات على مقدمي الخدمات الإلكترونية واجبات إضافية مثل قابلية العدول خلال مدة محددة، وإتاحة وسائل فعالة لحل النزاعات عن بعد وضمان سرية البيانات الشخصية وعدم استغلالها بشكل غير مشروع. 


وتعتبر هذه الحماية امتدادًا لسياسة تشريعية تهدف إلى تحقيق التوازن بين الأطراف، خاصة في ظل عدم تكافؤ المراكز القانونية والمعرفية.



ولا يمكن إغفال دور القانون المدني في معالجة مسؤولية مزوّدي المنصات الرقمية، إذ باتت هذه المنصات وسيطًا أساسياً في إبرام الكثير من التعاقدات، ومن هنا اتجهت التشريعات إلى تحديد المسؤولية المدنية لهذه الكيانات عند إخلالها بواجباتها أو تسببها في ضرر للمستخدمين سواء نتيجة قصور في أنظمة الحماية أو عدم شفافية الإجراءات أو الإخلال بواجبات الرقابة.


ختاماً، يمكن القول إن القانون المدني نجح إلى حد كبير في مواكبة تحولات العصر الرقمي، لكنه ما يزال مطالبًا بمزيد من التحديثات لاستيعاب التطورات التكنولوجية المتلاحقة مثل الذكاء الاصطناعي، والعقود الذكية وتقنيات البلوك تشين. 


ومع ذلك، يبقى دوره الأساسي متمثلًا في حماية المتعاقدين، وتعزيز الثقة القانونية وتحقيق التوازن بين حرية التعاقد ومتطلبات الأمن القانوني في فضاء رقمي سريع التغيّر.

google-playkhamsatmostaqltradentX