عما يفعل الاكتئاب في دواخلنا
بقلم : ندى سمير
يظن الكثير أن الاكتئاب دائمًا ما يحدث بلبلةً وضجيجًا حوله، عليك أن تكون ممن يصرخون دائمًا، ويمزقون ثيابهم، ويعبثون بملامحهم أو يحطمون أثاث الشقة؛ لكي نقتنع أنك تعاني اكتئابًا حادًا، عليك أن تكون على حافة الجنون، أو تفصلك شعرة بسيطة بينك وبين الانتحار ، أو تقدم عليه بالفعل، لنبدي لك الاهتمام ونستمع لأنينك، بينما في الحقيقة الاكتئاب جنديّ يعمل في صمت، يتودد إليك دون أن تشعر، يجعلك مستنزفًا بلا سبب جليّ يذكر، تجد نفسك تحملق في شاشة هاتفك لساعات وأنت لا تقرأ شيئًا حقًا، أو تنظر إلى عينيّ أحدهم مباشرة، لكنك لا تستمع له من الأساس، أنت حي مع وقف التنفيذ، منتهٍ الصلاحية، وفارغ الطاقة، لم تعد قادرًا حتى على الابتسام، تغضب دائمًا لكل ما هو تافه وغير ذي قيمة، بينما أمام الطامة الكبرى تسلم أسلحتك وتتوقف عن المقاومة، شيءُ ما فيك انتقل لرحمة الله -إن لم يكن كلك- أنت لا تشعر بقيمة أي شيء أو أي شخصٍ حولك، فقط تعيش، والعيش في حد ذاته ليس سيئًا، إن كان محملًا بمخزونٍ من الرضا والإيجابية، لكنك عابس معظم الوقت وغافلٌ فيما تبقى، لا تستشعر معنى الحياة ولست قادرًا على الحب والعطاء، تخوض معارك العمل اليومية وأنت تصارع لتجد وقتك الخاص الذي يمكنك التنفس به، تبحث طوال الوقت عن مهرب، في الطعام، في النوم، في مقاطع فيديو سخيفة وساخرة، تبحث عما يعطل سيل الأسئلة والآلام في رأسك، ما يمنحك تسكينًا مؤقت، ما يوهمك بأنك منتج، وما يعطيك قيمة زائفة وهوية مصطنعة، هذا هو الاكتئاب المقنع، أنت لا تشتكي، ولست منعزلًا بل محاط بأمة محمد، لست تقف على الشرفة تنتظر اللحظة المناسبة للقفز، بل أنت في مقعدك طبيعي تمامًا يرتسم عليك التقبل، أما داخليًا كل ما فيك يتآكل.
هناك ظروفٌ سياسية واقتصادية وعوامل عدة أنشأت شعبًا كاملًا خائر القوى، يتلهف لساعة واحدة بلا كوارث يستطيع أن يهنأ فيها بالسكون، وينعم بالراحة، لكن لا راحة، هناك عمل ذو توجه رأسمالي يمتصك حتى آخر قطرة، ويسلبك وقتك، وكيانك، وحياتك، يستعبدك بشكل أكثر رقيًا، ويقنعنك أن المال كل ما تحتاج إليه وليس دفء العائلة، واسترخاء البدن والصحة، يجعلك تدور في ساقية هو وحده المستفيد منها، لكنك مقيد لا يمكنك حتى أن تبدِ اعتراضًا، أنت محتاج، وبعض البشر بارعون جدًا في استغلال الحاجة. ونأتي للوازم الحياة، الحياة نُزعت منها البساطة، لم تعد قابلة للعيش في سقفٍ من الطين، وسجاد من حصير، وقُلةٍ وبعير تجول به كل بقاع العالم بلا جواز سفر، فأنت اليوم بحاجة لسيارة أو اثنين، ونيش، وبدلة، وكورس إنجليزي ولغة إسبانية، وشهادات ميلاد تثبت أنك على قيد الحياة -كأن وجودك نفسه لا يكفِ- وكثير من المتطلبات الحياتية التي أصبحت إجبارية واتفق عليها كل دول العالم بفمٍ واحد، وزادوا العيش تعقيدًا ثم تشاكوا، واستغاثوا من عقبى ما جنت أيديهم، إعلانات يومية تدعوك، وتحرضك، وتلح عليك لشراء سلعٍ تافهة لا تحتاج لها، لكنها فجأةً تصبح ضرورية يمتلكها كل من حولك، وينبذونك لعدم حصولك عليها! هنا تأتِ مكاسب الشركات الكبرى، هوس الاستهلاك والشراء، والعقل الجمعي الذي يجعلك واحدًا من الملايين بل المليارات ممن يعيشون كالقطيع، في حلقة استهلاك مفرغة. كل هذا مدعاةٌ للاكتئاب، حين تدرك أنك تحولت من كائن مبدع مفكر إلى عنصر خامل مُستهلك، يأكل، ويشرب، ويشاهد فقط، حين تصبح مجرد عالة، لا تجد هوية حقيقية لذاتك وإنجازًا خاص بك بعيدًا عن اقتناء ما يقتنيه الآخرون.
والكارثة الأخيرة وأبشع وأقوى محفزات الاكتئاب النشطة: "العلاقات الإنسانية"، نعم هي أكبر مسبب للانتحار في نظري، ولا أعني العلاقات الوطيدة والحميمية بين البشر فهي جلَابة المشاكل بطبعها، أعني تلك العلاقات السطحية الضيقة المبنية على المنفعة، والتي أصبحت أكبر خرّابة تحيط بك، تأتي اليوم لتستقل وسيلة نقل لتلعب دور الشحاذ فجأة، وتنقلب الآية فتصبح بدلًا من طالب خدمة إلى منقاد ومجبر على هيكل الخدمة، حيث يختار السائق الوجهة، والسعر، والمقعد، والأغنية، وعدد الركاب والطريق، وربما لو أراد لاختار زيّك أيضًا. وليس الأمر قاصرًا على السائق بل على عمال الإصلاح، وموظفي الإدارات الحكومية، وبائعي المحلات، البشر أصبحوا أقرب لقنبلةٍ موقوتة، تستعد لتنفجر في وجهك في أي وقت، وتظهرك بمظهر المخطئ والغريب دائمًا، وذلك يؤزم حياتك بأكملها، ويجعلك فريسةً سهلة للاكتئاب المزمن الروتيني.
من الصعب ردع كل تلك المسببات أو محوها في غمضة عين، لكنك قادرٌ على أن تكون عنصرًا فعالًا محاربًا للاكتئاب، أن تجد سعادتك في أبشع الظروف وتخلق عالمك الخاص، وتشجع كل أحد أن يخلق عالمه الذي يحب، ويبدع لأجله أولًا، أن تحب ذاتك، وعائلتك، وعملك لتكون قادرًا على حب المجتمع، والتعامل مع مشكلاته وتقبلها ثم حلها إن شاء الله، فالجمال الخارجي ينبع من الداخل أولًا، ولن تغير العالم قبل أن تبدأ بنفسك، وتعيد تقويم ذاتك، وتخلع رداء السلبية والانهزامية وترجمَ فساد الأخلاق، لأن حينما نبني الفرد نبني الأمة، وكيفما كنتم كان العالم في أعينكم، والسلام.

