اقرأ التفاصيل
recent
أخبار عاجلة

زعماء صنعوا تاريخ

 زعماء صنعوا تاريخ 




 كتبت - منى منصور السيد

الخديوي عباس حلمي الثاني صانع نهضة مصر المنسي في مواجهة الإمبراطورية البريطانية


غالباً ما تُروى صفحات التاريخ من منظور المنتصر، وهذا ما حدث مع الخديوي عباس حلمي الثاني (1874 - 1944)، آخر خديو لمصر والسودان. حكم عباس حلمي البلاد لما يزيد عن اثنين وعشرين عامًا (1892- 1914)، وهي فترة شهدت تحول مصر إلى دولة حديثة بمعايير عالمية، لكن جهوده تم تغييبها بعد أن أطاحت به القوة العظمى في ذلك الوقت: الإمبراطورية البريطانية.

كان عباس حلمي الثاني أكثر من مجرد حاكم؛ كان مهندسًا للنهضة المصرية، وقائدًا واجه الاحتلال البريطاني بشجاعة، مما أكسبه احترام شعبه، وفي الوقت نفسه، عداء الإنجليز الذي أدى في النهاية إلى نفيه وعزله.

تُعد بصمات الخديوي عباس حلمي الثاني منقوشة في قلب الحياة المصرية الحديثة. إذا كانت القاهرة قد عُرفت في مطلع القرن العشرين كواحدة من أفضل مدن العالم في التخطيط والجمال، فإن الفضل يعود إلى رؤيته الطموحة. لم يترك مجالًا إلا وشمله التطوير، ففي مجال البنية التحتية والمواصلات، فُتحت في عهده مشاريع ري ضخمة غيرت وجه الزراعة المصرية، مثل خزان أسوان وقناطر أسيوط وإسنا. وفي مجال النقل، وضع حجر الأساس وافتتح محطة سكة حديد رمسيس الشهيرة (محطة مصر حاليًا)، وأسس شبكة خطوط الترام في القاهرة عام 1896، في وقت كانت فيه معظم المدن الأفريقية تفتقر إلى أبسط الخدمات الحديثة. كما أن معظم الجسور التي لا تزال تُستخدم حتى اليوم، مثل كوبري أبو العلا، كوبري إمبابة، وكوبري عباس، قد وُضعت أحجار أساسها أو أُنجزت في عهده، لتربط أوصال العاصمة وتسهل حركتها.

كان الخديوي عباس حلمي الثاني مدركًا للقيمة الحضارية لتراث مصر، وحرص على حمايته من الإهمال والنهب الغربي. فقد اتخذ قرارًا تاريخيًا بوضع خطة شاملة لترميم آثار مصر الإسلامية بدءًا من عام 1895، فأنقذ مساجد تاريخية كبرى مثل جامع السلطان حسن ومسجد عمرو بن العاص من الاندثار. وعمل كذلك على حماية الآثار المصرية من سرقات ونهب علماء الغرب، وساهم في تأسيس وافتتاح المتحف المصري ومتحف الفن الإسلامي.

يُعتبر عباس حلمي الثاني هو المؤسس الحقيقي للتعليم العالي الحديث في مصر. فقد وضع حجر الأساس وافتتح مبنى جامعة القاهرة العريق (الذي كان يُعرف آنذاك باسم الجامعة المصرية)، بهدف إنشاء نظام تعليمي يضاهي المواصفات العالمية الحديثة، ليخرج أجيالًا قادرة على قيادة البلاد.

كانت نقطة الخلاف الجوهرية بين الخديوي عباس حلمي الثاني والسلطات البريطانية هي موقفه الوطني الرافض للهيمنة البريطانية على مقدرات مصر. لقد خافت منه دول الغرب لكونه رجلًا وطنيًا قويًا يسعى للاستقلال وتحديث بلاده. في تحدٍ مباشر لسياسات والده، الخديوي توفيق، قام عباس حلمي الثاني بعمل رمزي له دلالة عميقة بإصداره العفو عن الزعيم أحمد عرابي، والسماح له بالعودة إلى مصر مع منح معاش شهري، وهو ما عزز من مكانته كقائد ينحاز إلى تطلعات شعبه. وحينما قررت بريطانيا عزله عن العرش في عام 1914، كان رد فعل الشعب المصري قويًا وعفويًا. هتف المصريون من أجله هتافًا لا يزال حيًا في الذاكرة الشعبية: "الله حي، عباس جاي"، تعبيرًا عن التمسك به ورفضًا للقرار البريطاني الذي نُفي بموجبه إلى الخارج.

لقد كان الخديوي عباس حلمي الثاني مثالًا للحاكم المستنير الذي وضع حجر الأساس لمصر الحديثة في مجالات البنية التحتية، والتعليم، وحماية التراث. إن طمس تاريخه كان محاولة بريطانية لتغييب رمز وطني قاوم احتلالهم. ولهذا، فإن استذكار إنجازاته هو واجب لإنصاف حقبة ذهبية في تاريخ مصر الحديث.

google-playkhamsatmostaqltradent