حُلم الصحوة وقلق الهُويَّة
وعودة الروح للحكيم نموذجا
بقلم : أ. د نجيب عثمان أيوب
الأستاذ بكلية الآداب، جامعة حلوان
بمناسبة ذكرى وفاة أديبنا الكبير توفيق الحكيم -نهاية شهر أغسطس الجاري يطيب لنا أن نثير أهم ما كان يقلقه من قضايا تجلت في أعماله الروائية والمسرحية التي تمايزت عن غيرها بإشراقاتها الذهنية والفلسفة الرامزة، التي تحرك سواكن كل متلقٍ يتلقاها بروَيَّةٍ ووعي، ألا وهي مشكلة الروح العربية المنهكة والمشتتة حاليا، فيما نستطيع تسميته بتهديدات الهوية في ظل ضعف الشخصية العربية وتشتتها، فيما بعد المرحلة الاستعمارية (الكلونيالية)، وهي من أشد مراحلنا التاريخية حرجا.
كان عمله: (عودة الروح) خير عمل جَسَّد هذه المُعضلة التي نالت حظا وافرا من مفاهيم النقد لم تتجلَّ ظاهرةً على مائدة النقد، إلا فيما بعد الحداثة - أو ما بعد البنيوية- من مبادئ النقد الثقافي التي ملأت الأجواء بعد وفاة الحكيم بمدة.
تقف الهُوية العربية المعاصرة عند مفترق طرق تاريخي حاد: تراث ثقافي عريق يتقاطع مع حقبة استعمارية موجعة وواقع متشظٍ يواجه تحديات العولمة والحداثة المتسارعة، في ظروف محيطة من مستعمر ترك مندوبيه اللاهثين وراءه يبتغون رضاه على أراضينا، ومن متشند قلق يتمترس بتراث يتيم على الساحة، ربما لم يفهمه ولم يرعه حق رعايته، ومن جُهَّال بكل ما حولهم وبما يُحاك لهم، بل بأنفسهم وبخصوصياتهم الحضارية والثقافية.
مع ما يحيط بذلك تلوضع من قلق وضبابية يسيطران على رؤى المستقبل وتطلعاته، ناهيك عما زرعه الاستعمار في قلب المنطقة من كيان محتل، كان سببا في انصراف الذهنية العربية عن أدوات التقدم والنهوض في كل مجالات التطور.
هذا التمازج بين المشكلات، قد ولَّد ما يمكن تسميته ب(هموم الكينونة العربية) مما حتَّمَ أسئلةً جوهرية تطارد الفرد والجماعة في المجتمعات العربية: من نحن؟ ما جوهرنا؟ كيف نتوافق مع ماضينا في حاضرنا؟ وكيف نبني مستقبلًا يحفظ كرامتنا وهويتنا دون انغلاق أو انسلاخ؟ هذه الأسئلة الوجودية ليست جديدة، بل هي صدى لتساؤلات راودت رُوَّاد النهضة العربية عن بكرة أبيهم، وتجسدت بقوة فائقة في معظم أدبياتهم، ولعل رواية توفيق الحكيم الخالدة (عودة الروح) 1933م.
تعتبرُ واحدة من أعمق الغوصات الأنطولوجية (الوجودية) في هذا السؤال المحوري العميق غاص به الحكيم في خضم عميق وهو:(عودة الروح):
ويعني بالرح الأنطولوجيا الجماعية (الكينونة العربية) في مواجهة العدم.
فلا تُروي "عودة الروح" على أنها مجرد قصة عائلة مصرية بسيطة أو حكاية حب فتى مراهق مع محبوبته الفتاة
(محي/سنية).
بل هي في لبها وفحواها، رحلة استكشاف لأنطولوجيا الروح العربية الجمعية:
١- الروح النائمة والجسد المشتت:
تصور الرواية الأمة المصرية
(كنموذج للأمة العربية كافة) كجسد هائل نائم، أو "روح" عظيمة مُغيَّبة عن الوعي.
الشخصيات الرئيسية في هذه الزواية ممثلة في أفراد العائلة المتنوعين – تجسد أجزاء مشتتة من هذا الجسد الكلي
(العقل، العاطفة، الجسد، الروحانية).
وانشغال كل فرد بهمومه الضيقة
(حب محي لسنية، وطمع عباس، وحكمة سليم، وقوة عبدو) يرمز إلى تشرذم الأمة وانشغال أفرادها، كل فرد منهم بهمومه الذاتية على حساب الهم الكلي، هذا الشتات هو في ذاته غياب للكينونة الحقيقية، حالة من اللاوجود الجماعي الفاعل.
٢- الانتماء الصادق والحقيقي هو أساس الوجود الفعلي، حيث يكتشف البطل (محي) تدريجيًا أن هويته الفردية لا تكتمل إلا بانتمائه إلى كيانه الأكبر (مصر).
فحبه لسنية يتحول من عاطفة فردية إلى رمز للحب الأكبر للوطن، هذا التحول الأنطولوجي الحاسم: الذي يفيد بأن الوجود الفردي يجد معناه ومبرره فقط في سياق الوجود الجماعي. (فالفرد بلا جماعة هو كيان ناقص، شبه موجود).
٣- الفلاح المصري هو من يحمل جوهر مجتمعه:
يضع الحكيم الثقل الأنطولوجي للهوية المصرية (العربية ضمنيًا) على كاهل الفلاح البسيط (مثل عبدو).
فالفلاح هنا ليس مجرد تمثيل لطبقة اجتماعية بعينها - وفق طبقات ماركس- بل هو تجسيد للروح الأصيلة، المتصلة بالأرض والتاريخ والجذور، الحاملة لقيم الصبر والتحمل والارتباط العضوي بالوطن من خلال التماهي في أرضه ليخرج منها قوت الحياة وسبب الوجود الحياتي اليومي، ووجود الفلاح بهذا الحضور الفاعل، لهو شهادة على استمرارية الجوهر رغم كل العواصف.
٤- الثورة جاءت صحوةً وإثباتًا للوجود الحقيفي الحي؛
لذا تُعدُّ ذروة البحث الأنطولوجي عن الذات العربية وكينونتها، وهذا ما تحقق فعليا مع قيام ثورة 1919م ونجاحها.
هذه اللحظة الفارقة ليست سياسية فقط، بل هي لحظة صحوة وجودية. "الروح" النائمة تعود فجأة إلى الجسد المشتت. فيشعر الأفراد أفراد العائلة (الشعب المصري) فجأة بأنهم جزء من كلٍ واحد (روحا وجسدا) .
فاختفت الهموم الفردية الصغيرة أمام الهدف الجماعي الكبير (الاستقلال، الحرية، الكرامة) وهذه هي لحظة التحقق الوجودي.
إذن الثورة هنا هي فعل الوجود بامتياز، وهي رفض للعدم (الاستعمار/الاستبداد/التفتت) وهي إعلان عن حضور الكينونة الجمعية بكل قوتها.
وعنوان الرواية نفسه (عودة الروح) هو إعلان عن استعادة الكينونة الحقيقية بعد غياب طال مع الظروف المحيطة.
٥- التضحية والفداء: مشهد مو تة "محي" في المظاهرات ليس مأساةً فردية، بل هو فعل أنطولوجي له دلالاته العميقة المعبرة.
تضحيته هي ذروة اتحاد الفرد بالكل. موته (من أجل) الجماعة يؤكد أن وجود الجماعة يتطلب أحيانًا فناء الأفراد فيها وبها. وجوده الحقيقي يتجلى في فدائه، ليصبح رمزًا خالدًا للروح التي عادت، ومن أصداء هموم الحكيم التي أظهرها او أضمرها في أعماله الخالدة بالواقع المعاصر، منعكسة كانعكاسات المرآة،
لتظل (عودة الروح) مرآةً عاكسةً للهم الأنطولوجي العربي، وتجد أصداءها حتى في الدراسات العلمية المعاصرة:
* في علم النفس الاجتماعي وأبحاث الهوية، تؤكد دراسات الهوية الاجتماعية ما ذهب إليه (هنري تاجفيل) على أن الشعور القوي بالانتماء إلى مجموعة مترابطة (كالأمة) هو حاجة نفسية أساسية لتحقيق الذات والرفاهية النفسية. وغياب هذا الانتماء أو ضعفه (كما في حالات التشرذم العربي المعاصر) يرتبط بمشاعر الاغتراب والقلق الوجودي وفقدان المعنى الذي يسود الأفراد والجماعات في وقتنا الراهن، وهو ما صورته الرواية فيما قبل ثورة ١٩١٩م.
* العلوم السياسية تتكلم عن الترابط والتماسك الاجتماعي:
* تُظهر أبحاث التماسك الاجتماعي (مثل مؤشرات البنك الدولي أو دراسات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD) أن المجتمعات التي تتمتع بلِحمةٍ وطنية/قومية مشتركة قوية ومشاعر انتماء جماعي عالي الشأن، هي أكثر استقرارًا وقدرة على مواجهة الأزمات وبناء المستقبل، وحالة التشرذم التي صورتها الرواية وما يتبعها من صحوة، توضح هذه العلاقة بجلاء.
* وخلاصة القول هي أن ما يُعاني منه العالم العربي من صدمات جماعية متتالية (استعمار، هزائم أمام الآخر المغتصب، لصراعات الأهلية المذهبية والطائفية والعرقية) هي الأس والأستس في أزماتنا الراهنة، وتظهر أبحاث الصدمة مثل أثاره (جوديث هيرمان) في أبحاثه أن أحد آثارها العميقة هو تشويه الهوية الجماعية وفقدان الثقة بالنفس الجمعية والشعور بانقطاع الصلة بالماضي المشترك وهذه كلها أوصاف تنطبق على حالة (النوم) ما قبل (اليقظة) "عودة الروح".
* وعملية إعادة بناء الهوية (عودة الروح) هي جزء جوهري من الشفاء من هذه الصدمات الجماعية.
ناهيك عما تؤكده دراسات علم الاجتماع الثقافي وما أعلنه كل من: (صموئيل آيزنشتادت) و (بيتر بيرغر) من أن دور الروح الموحدة أو (الوعي الجمعي) - كما ذهب عالم الاجتماع دوركايم- في تشكيل المؤسسات والممارسات الاجتماعية، دور بارز وهام، فانحسار هذه الروح (كما صورته الرواية) يؤدي إلى ضعف النسيج الاجتماعي، بينما يقوي صحوها (الثورة) الروابط ويولد طاقة للتغيير.
لذا نقول اليوم وكأننا نسمع الحكيم ينبؤنا بأن :
"عودة الروح" ليست مجرد وثيقة تاريخية عن ثورة 1919م، بل إنها استقصاء فلسفي عميق في سؤال الوجود العربي الجماعي.
هموم الهوية والكينونة التي عالجها في روايته الرائعة (التشتت مقابل الوحدة والنوم مقابل الصحوة، والفردية مقابل الجماعة، والبحث عن الجوهر الأصيل مقابل إهماله) لهي هموم ما زالت تلاحق الضمير العربي حتى اليوم.
الرواية إذن تذكير قوي بأن قوة الأمة تكمن في قدرتها على إيقاظ روحها الجمعية، تلك الروح المتجذرة في الأرض والتاريخ والقيم المشتركة، والتي تجد في لحظات الوعي والتضامن والهدف المشترك ذروة تحققها الوجودي.
والغوص الأنطولوجي للحكيم في خضم الذات العربية، يقدم -ليس فقط تشخيصًا دقيقًا لداء التفتت- بل يقدم أيضًا، من خلال قوة الرمز والأدب، وصفة للخلاص عبر العودة إلى جوهر الذات الجماعية وإحياء روح الانتماء التي تصنع الوجود الحقيقي. ليظل السؤال الأنطولوجي "من نحن؟" قائمًا، و"عودة الروح" تقدم إجابةً خالدة: نحن موجودون بقدر ما نعيد اكتشاف روحنا وكينونتنا الواحدة، ولنجعل مُصب أعيننا خطاب السماء لنا:
"وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ"
آل عمران: 103
