ٱلَّذِينَ مَرُّوا بِنَا وَلَمْ يَبْقَوْا
بقلم : الكاتبة منال خليل
- لم أعد أؤمن بالمصادفات كما كنت أفعل بالماضي .
فقد تعلّمت، ببطءٍ موجع، أن كل من دخل حياتي، ولو بموقف بسيط او لفتره محدودة ، كان يحمل رسالة ما.
كان مرآة، أو مفتاح، أو كأن
" لعنة بثوب نعمة "
هناك مقولة احبها لشمس التبريزي :
"لا أحد يظهر في حياتك مصادفة
كلّهم رسائل متنكرة في هيئة بشر"
- في البداية،قد لا نفهم
نظن أن البعض مرّوا بلا أثر، وأن بعض الوجوه لم تكن سوى محطات نمرّ بها في طريقنا إلى “الذين يستحقون”
لكن الحقيقة؟
أن كل وجه مرّ بك، ترك أثرًا، ولو خافتًا ولو في اللاوعي.
- لم يكن عبورهم بريئًا، ولا خطواتهم على هامش حياتك عبثيه كما توهّمت
فالعابرون ، ليسوا عابرين
هم رسائل تمشي على قدمين، أحجية بثياب بشر، يظهرون حينما يضيق بك الطريق، أو حين تغفل روحك عن حقيقتها، أو حين تنسى أن تتأمل وجهك في مرآة الوجود والظروف والإبتلاءات الكبرى.
- ذلك الشخص الذي جرحك دون مبرّر لم يكن إلا مرآة تعكس نزفًا أقدم محفور بذاكرته، فتراه فيك لأنك نسيت أن تضمده.
وتلك التي لم تبقَ، لم تكن ناقصة، بل كانت كاملة لحظة حضورها، جاءت لتُريك كيف يشتعل الحب سريعًا ويخفت لا لأنه زائف، بل لأنه أدّى مهمته ورحل .
وحتى ذاك الذي غدر بك، وتلك التي خانتك، حتى أولئك الذين دخلوا عليك بلا استئذان، وقطعوا أوصالك ثم مضوا كأنك لم تكن.
كانوا رسائل ، لربما قاسية، موجعة
لكن ضرورية بوقتها .
لربما جاءوا ليُظهروا لك حدودك التي كنت تتجاوزها باسم الحب، ويكشفوا لك كم كنت تُهدر نفسك على من لا يعرف قيمتك.
كانوا مرآتك حين كنت مغمض العينين
وكانوا الضوء الذي أتى في صورة نار مشتعلة.
- القدر لا يسوق الناس لحياتك عبثًا
بل ينسجهم خيوطًا حول ذاتك، كل خيط يشدك نحو وعي ما، نحو ألم كنت تهرب منه، أو نحو نور خبأته في ظلمة داخلك.
- ربما لن تفهم الآن وربما ستبكي بحرقة حين يرحلون.
لكن بعد حين، حين تهدأ العاصفة، وحين تُصغي لا للذاكرة بل للمعنى، ستدرك أن كل غريب هو ظلّك، وكل مؤلم كان شفاءك.
وأن الذين تظنهم نسمة عابرة ،ما كانوا إلا ريح جاءت لتزيل عن روحك غبار السكون أو الخمول بشكل متخفي ولكن موجع .
- في الدنيا ليس هناك مصادفات
بل هناك ترتيب خفي، دقيق، محكم، لا يراه إلا من نزع عن عينيه غشاوة كل
" لماذا ؟"وارتدى بصيرة "لأجل ماذا ؟"
أو علشان أيه !!
- أتذكر حين دخلتُ إلى مقهى صغير ذلك اليوم الماطر، هربًا من برد يناير ومن خواءٍ كان يتسلّل إلى أعماقي دون استئذان لم أكن أبحث عن شيء محدد
كنت فقط أُفتّش عن دفءٍ مؤقّت، عن ملاذ صغير ينجيني من رجفة لا علاقة لها بالشتاء.
جلستُ إلى طاولة خشبيه قرب النافذة
وحين رفعتُ عيني، كان هناك رجل يجلس مقابلي ،رجل لا أعرف اسمه، ولا ملامحه ولكنها بدت واضحة وشدتني
كان غارقًا في كتاب بدا على غلافه القِدم، يقرأ منه بصوتٍ خافت
كأن صوته لا يريد أن يصل إلى أحد، بل يعود إليه.
لم يلتفت إليّ، لم يُحاول الحديث
لكنّ شيئًا في حضوره كان أقوى من الكلام ،كأن الكون كله صمت ليستمع إلى ما لم يقله.
شعرتُ أنني أمام رجل لم يأتِ ليبقى
بل ليوقظ شيئًا في داخلي نسيته أو تجاهلته طويلًا.
الكلمات التي نطق بها من الكتاب دون أن يوجهها لي ، كانت كمن يُفتّش في صدري عمّا لا أجرؤ على البوح به.
لم يكن بيننا حديث،لكنني خرجتُ من المقهى وأنا أحمل صوته في داخلي، كما لو أنني التقيت جزءًا من ذاتي كنت قد فقدته من فتره.
كأن نظراته التي لم تلتقِ بعينيّ، صافحت وجعي، وهمست لي دون أن يتكلّم:
"افتحي الباب ثمة ما ينتظرك خلف هذا الصمت وأنت وحدك تعرفين الطريق"
- وأذكر أيضًا ذلك اليوم ،حين كنتُ أحدث أخي لا لأشكو الحياة، بل لأفهمها بعد أن غاب عنها "عزيز روحي"
قلت له:
"ها هي الشمس مشرقة جدًا وهناك أشجار حولي،وحتى الزهرات التي زرعتها باسمه،تفتّحت في غير أوانها كأنها تعرف"
لكنني رغم كل ذلك لا أرى نورًا
الدنيا كانت ضيّقة، رغم اتّساعها، لأن الضيق كان في صدري والظلام لم يكن في الخارج،بل كان في داخلي، يسكنني كما تسكن الوحشة قلب الفاقد
إنها وحشة الفقد ،الحزن الذي لا صوت له،الذي يمرّ بالنهار وكأن الليل لم ينتهِ بعد،
الذي يجعل من الحياة مشهد صامت بلا موسيقى ولا رجاء .
- رحل أشخاص كثيرين من حياتي وبقي أثرهم ينهش قلبي أو يربّت عليه وقتها حتماً كانوا يعنون لي الكثير جدا.
منهم ذلك الذي كسرني عمداً وكان يحمل مرآتي، يريني كم من التنازل أقدّمه خوفًا من الفقد،وتلك التي غادرتني في لحظة احتياج، كانت تحمل درسي الأكبر: أن لا أحد يُكملك، إن لم تكن مكتملًا في داخلك أولًا.
- فكل لقاء رسالة، وكل وداع بصيرة
وكل خيبة، وإن أحرقت قلبك، كانت تحمل جزءًا من الحقيقة التي كنت تؤجل رؤيتها.
ربما لا نعيش حياتنا كما نظن،بل نعيش آثار الذين مرّوا بنا ،نُعيد كلماتهم مواقفهم، رحيلهم ،كما لو كانت شريطًا يتكرّر بصوتٍ خافت خلف الضجيج.
وكلما حاولنا النسيان،تكفّل القلب بإعادة العرض لا ليعذّبنا، بل ليذكّرنا:
أننا كنّا هناك في اللحظة، في الارتباك في الخيبة،في الحب، في الأمل الذي وُلد ثم وُئد.
- ليس المؤلم أن نلتقي بمن يرحلون
بل أن نلتقي بأنفسنا فيهم ثم لا نجدها بعدهم.
فإذا ضللت الطريق يومًا،قف، لا لتبحث عن خارطة، بل لتسأل نفسك:
"من الذي جاءني في صورة صدمة؟
وما الذي كان ينبغي أن أفهمه ولم أفهمه بعد؟"
لعلّ في الرسائل التي لم نقرأها بعد
يكمن الطريق .
- وهكذا، لا يعود هناك شيء يُسمى "مصادفة" بل "موعد" كان مكتوبًا في مكانٍ ما، قبل أن نولد، قبل أن نعي
ربما هناك ،في " كتاب لم يُرفَع قلَمهُ بَعد "