الخلفيات الثقافية والموروثات الشعبية المتوارثة عبر الأجيال
الخلفيات الثقافية والموروثات الشعبية المتوارثة عبر الأجيال
بقلم : د. سعدية العادلي
"عندما تتحدث القطط"
عنوان كتاب للروائي والسيناريست الفنان كريم سليمان متولي
صاحب رواية عاموس التي تصور الصراع المصري الصهيوني .
وهو كاتب سيناريو الفيلم القصير
فنجان قهوة
وبنت صنم وسيناريو
قيراط حظ.
كريم سليمان من مواليد القاهرة 1981 حي عين شمس وتعود أصوله إلى صعيد مصر، سوهاج، جمع بين الأصالة والحداثة حيث أتاح له وجوده بالقاهرة أن ينهل من ثقافات متنوعة.
أتقن فن السيناريو والكتابة القصصية ودرس فنيات عمل الأفلام التسجيلية.
قاده الطموح نحو الإبداع ببرامج البودكاست، ينقل صوراً متعددة للكتاب والفنانين لنشر المزيد من الفكر والمعرفة.
اختار للكتاب عنوانًا جاذبًا
"عندما تتحدث القطط"
هذا بمفهومنا العادي، ولكن الموروثات الشعبية غنية بقصص تتوارثها الأجيال بالحكي، تُحفَظ بالصدور، وتُعَد أمانة غالية تحفظ القيم والحكم والمعارف بتلقائية بعيدة عن التكلف، حيث لا يُذكَر الزمان أو المكان، ولكن تبقى القصة والعِبرة.
حاملة القيم والعادات والتقاليد عبر الأجيال جيلاً بعد جيل.
الغلاف:بيوت القرية الكثيرة المتلاصقة باللون الأزرق بدرجاته تُشكّل تراثاً قديماً يشير لحقبة زمنية هي ستينيات القرن الماضي وما قبلها، بها نوافذ مضيئة تظهر من خلالها أجزاء غامضة لبعض الشخصيات.
تنظر القطط باهتمام وهدوء وسكون.
يُفسّر هذا المشهد القصة الأولى في المجموعة القصصية التي حملت عنوان الكتاب.
الإهداء:يهدي الكاتب هذه القصة إلى روح والده بوصفه القاصّ الأول في حياته، فقد علمه أن هناك قصة وراء القصة، وأننا جميعاً سطور كُتبت بقلم أحدهم.
نلمح مكانة الوالد في حياة الكاتب ودوره المحوري وثقافته، وما نقله من موروثات شعبية ورؤى فلسفية لأبنائه، ويظهر هذا من خلال القصة الأولى "عندما تتحدث القطط"، والتي اختيرت لتكون عنواناً للكتاب.
تأثر الكاتب بوالده الذي علمه بأن لا يأخذ بظواهر الأمور، وأن يتأنى، ويسوق لنا حكمته وهى أن :
"نحن جميعاً سطور كتبت بقلم أحدهم "
والكاتب يتسم بالإخلاص والوفاء لوالده فيدعو الله أن يرحمه ويغفر له ويطيب ثراه.
ثم يهدي الكتاب لأبنائه الخمسة: عبد الرحمن، مرام، ديمة، دانا، ويحيى، قائلاً: "أنتم سَنَد قلبي وسر سعادتي".
يذكر الكاتب وجه الشبه بين المخلوقات فهذه القطط تجتمع أسبوعياً، فما زالت تُقدّر قيمة الأسرة التي لا يحرص عليها البشر الآن. تتجاذب القطط أطراف الأحاديث التي تحرص القطط على معرفتها، فهي تعرف عن البشر ما لا يعرفون عن أنفسهم، وهذه المعرفة مرتبطة بمقدار وكيفية حصولها على طعامها، فهي تقتات ما تبقى من طعام أهل القرية.
فنتعرف على صفات التاجر الثري وعدم إحساسه بالآخرين، فهو يلقي ما يتبقى من ولائم الطعام في صفائح القمامة رغم حاجة معظم سكان القرية إليها، وصورة أخرى لأرملة فقيرة تحرص على توفير اللبن لقطتها كل صباح، وصورة أخرى لصاحب الدكان المشغول بالنداء على بضاعته، وفي غفلة منه يفوز القط بطعامه.
كل ما سبق مقدمات لما يسوقه لنا الكاتب من قصة شيقة من التراث الشعبي تتناقلها الأجيال، وها هو ينقلها إلينا عبر كتابه ببراعة ومهارة، معلناً في الخفاء تأثره بهذا التراث، منقولاً ميراثاً عن الوالد الصعيدي الأصل.
في الكتاب صفحة 12 يقول:"في بادئ الأمر لم تكن القطط تعلم لغة البشر، كانت تسمعهم وتراهم فقط، حتى أتى ذلك الساحر إلى القرية، وكانت القطة تتردد عليه طمعاً فيما تبقى منه من طعام، فألقى إليها بتعويذة تجعلها تتحدث إليه كلما احتاج إلى رفيق، وأصبحت القطة رفيقته المقربة، تتجول بين منازل القرية وتعود إليه، تنقل ما رأت وما سمعت.
ولما وافته المنية، قررت أن تعلم القطط كيف يتحدث البشر فيعرفون أخبارهم ثم يعودون إليها بتلك الأخبار. فإذا قابلت قطة فعليك أن تستمع إليها بإنصات، فهي ترى ما لا تراه أنت، وتسمع ما تغفل عنه فاستمع إليها".
ينهي الكاتب قصته برؤية فلسفية من خلال هذه القصة الممتعة، فهو يرويها فقط دون ذكر الزمان أو المكان أو المصدر
لتبقى محفوظة في صدور سامعيها وراويها.
القصة التالية معنونة بـ "الجائزة الكبرى" توضح كوميديا الموقف في العلاقة الزوجية، بين الرجل والمرأة، في معظم الأحيان تكون غير سوية، إما أن يكون الرجل مسيطراً، وهذا في الغالب، وإما أن تكون المرأة.وأتعجب من هذا الأمر وأتساءل: ألم يقل رسولنا الكريم
"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"؟!
فتتحقق المساواة في التعامل، خاصة في الأسرة.
المرأة هي الغالب وهي المسيطر، مستغلة طيبة الزوج وعدم خبرته، وهو راضٍ سعيد بأقل القليل من حقوقه الزوجية، وهو تناول الطعام، فيسعد به وكأنه هو الجائزة الكبرى.
ثم قصة "القفص الذهبي" الأميرة ديانا التي لم تستطع أن تحيا في ظل قيود العائلة الحاكمة ورفضت التاج الملكي وتتطلعها إلى الحرية، مما كان سبباً في قتلها، هكذا تكون الطيور، لا تسعد ولا تستمتع بغنائها لو حبستها وأفقدتها حريتها، ولو كانت في قفص من الذهب
فلا قيمة له إلا الحرية والانطلاق.
وفي قصة "خمسة شعيرات بيضاء" يعرج الكاتب لمحطات العمر:امرأة خمسينية تنظر في المرآة، تتأمل وجهها وخطوط الزمن، رحلة الحياة والمعاناة، تتذكر أيام الصبا، والشعر الأسود، يبروز وجه القمر وظهور أول شعرة بيضاء مع حملها في ابنتها الأولى.
ثم الشعرة البيضاء الثانية تظهر مع التحاق ابنتها بالمدرسة، وتقول: بكاء الطفلة ومعاناة الأم بين مشاعر وأحاسيس متضاربة مضطربة، إنها مواقف لا تُنسى.
أما الشعرة البيضاء الثالثة، التي تحاول الاختفاء بين الشعيرات السوداء، ظهرت في أجمل أيام العمر، حيث زيارة الأسرة لمدينة ساحلية، نسمات البحر، رائحة اللود وشواء السمك الطازج، ما يزال طعم هذه الأشياء عالقاً في فمي.
لماذا تحاولين التخفي يا رمزاً لأجمل سنوات العمر التي حَيِيتُها؟
فتتذكر الخمسينية متى ظهرت هذه الشعرة، يوم عصيب وذكرى مؤلمة، يوم وفاة والدتها، ومحبة الزوج وإخلاصه في التخفيف عنها، يذكر لها دائماً أن ابنتهم شديدة الشبه بجدتها.
ثم تنادي البطلة هذه الشعرة، قائلة إنها شديدة الاعتزاز بها لأنها تذكرها دائماً بمدى حب زوجها واهتمامه بها.
وجاء دور الشعرة الخامسة، تناجيها بصدق، فهي لا تدري متى ظهرت، فهي مجرد إضافة للأخريات: هي أفراح وأحزان، هزائم وانكسارات، وانتصارات أيام شتى، أيام شتاء طويلة، وأيام صيفية مبهجة، وأصبح اللون الأبيض هو لونها المفضل، لون الحياة.
واستمرت في مناجاة تلك الخامسة، وأباحت لها بسر:"صديقتها ليلى التي تصر على صبغ شعرها، فحياتها تكرار بلا طعم ولا مذاق، أما البطلة فتقول: ذاكرة سنوات عمرها التي عاشتها وعايشتها بحلوها ومرها".
يختتم الكاتب القصة قائلاً:
"سنوات العمر التي نعتز بها ونفخر بإنجازاتها"
والكاتب كريم سليمان متولي يمتلك أدواته ويطوعها بجمل سهلة بسيطة بعيدة عن التكلف، فهو واسع الاطلاع، وذو خلفيات ثقافية مختلفة ومتعددة، وكتاباته متنوعة بين الحياة العامة، والانتماء، والأدب الشعبي، والسياسة، والأسرة.