غاليةٌ أكثرُ من نِصْفِ الحِكايةِ
غاليةٌ أكثرُ من نِصْفِ الحِكايةِ
بقلم : الكاتبة منال خليل
- في زاوية صغيرة من الزمن، حيث تتشابك الذكريات مع اللحظة الحاضرة جلست "غالية " في شرفة منزلها القديم تمسك كوب الشاي بالحليب بين يديها في استراحة قصيره ، تستنشق رائحته التي تُعيد إليها دفء الأيام التي مضت.. كانت الليلة باردة، لكن داخلها شعلة لا تنطفئ شعلة كانت تعرف أنها تحملها منذ وُلدت شعلة المرأة التي صنعت نفسها بنفسها
رغم أن العالم لم يُسهّل لها ذلك يوماً.
الشرفة كانت صغيره ، لكنها رحبة بما يكفي لتأوي أفكارها وذكرياتها مع احلامها ايضا.
الطاولة الخشبية أمامها تحمل آثار الزمن شقوق صغيرة هنا وهناك، لكنها لا تزال صامدة، تماما مثلها، الشارع المزدحم تحتها لم يتغير، السيارات المسرعة
أصوات الباعة، والضوء البرتقالي الخافت القادم من أعمدة الإنارة المتعبة.
حتى القمر، رغم اكتماله، بدا مجهداً، وكأنه شاهد على قصص النساء اللواتي مررن من هنا، تماما كما كانت " غالية "واحدة منهن.
- تأملت غالية بخار الشاي المتصاعد وعودين القرنفل يسبحان على وجه الكوب وابتسمت، تذكرت كيف كانت تُطالب منذ طفولتها أن تكون
"قوية ولكن ليست أكثر من اللازم"
"لطيفة ولكن ليس إلى حد السذاجة"
"ناجحة ولكن دون أن تُشعر الآخرين بالنقص"
كان عليها دائما أن توازن بين ما يُطلب منها، وبين ما تُريده لنفسها، كأنها تسير على حبل مشدود لا يُسمح لها بالسقوط عنه.
لكن، هل تحتاج المرأة إذن لتكون ما تريد؟
نظرت إلى صورة قديمة على الجدار صورة لجدتها التي كانت تردد دائما:
"يا بنتي، لا تنتظري أحد ليمنحك قوتكِ أنتِ القوة ذاتها"
حينها فقط، ابتسمت غالية لقد فهمت الحقيقة التي يعرفها كل قلب امرأة في هذا العالم هي لم تعد بحاجة إلى من يخبرها أنها عظيمة، لأنها تعرف ذلك بالفعل، تعرفه حين تنهض كل يوم رغم التعب، حين تخوض معاركها دون أن يسمعها أحد، حين تختار أن تستمر رغم أن كل شيء يدفعها للاستسلام.
- نظرت غالية إلى الشارع أسفلها، إلى النساء المارات مسرعات، يحملن فوق أكتافهن مسؤوليات لا تُرى. استرجعت وجوه عرفتها يوما.
- هناك " نور " الأرملة التي لم يمنحها العالم فرصة للحزن، لكنها لم تستسلم احتوت أطفالها ومصاعب الحياه واكملت وحدها.
وهناك "سلمى" المطلقة النصيب التي لم تلتفت إلى أصابع المجتمع المشيرة إليها بل أعادت بناء حياتها وكأنها تبدأ من الصفر.
وهناك "مريم" التي لم تُكتب لها طفولة فكانت الأم لإخوتها قبل أن تعرف معنى الطفولة نفسها.
كل هؤلاء النساء وغيرهن كثيرات بقصص رائعه وإن كانت تبدو ظالمة نساء لم ينتظرن الاعتراف ببطولتهنّ، ولم يحتجن إلى تصفيق أحد كنّ هنّ الأبطال في صمت
في كل خطوة، في كل تضحية، في كل مرة أخفين دموعهن خلف ابتسامة مطمئنة.
- وضعت "غالية" كوب الشاي جانبا، تأملت الشارع الذي لا يهدأ، ثم نظرت إلى السماء حيث القمر لا يزال يشهد على قصص النساء عبر العصور تناولت دفتر يومياتها طوت صفحة مصروفات الشهر وكتبت في دفترها جملة واحدة :
"المرأة ليست بحاجة ليوم يُذكّرها بأنها قوية هي تعرف ذلك، لكن العالم هو من يحتاج إلى هذا اليوم، ليُدرك أنها كانت هنا دائما، تُحركه بصمت، وتبنيه بصبر، وتعيد تشكيله كل يوم بخطواتها الثابتة"
أغلقت دفترها، ارتشفت آخر رشفة من شايها، ثم ابتسمت هذه المرة، لم تكن الابتسامة للآخرين، بل كانت لنفسها لروحها، لحقيقتها التي لم يعد العالم قادرا على إنكارها، ثم اتجهت إلى غرفة النوم لتوقظ "زوجها المقعد" من قيلولته لتغير له ملابسه، وتعد عشائهما أمام مسلسلهما المفضل بكل حب ولم تنسى مايفضله من
" كيك البرتقال " فجرت إلى الفرن مسرعة وهي تضحك وتداعب زوجها، في انتظار عوده أولادهم في زياره قريبه مرجوة .
" إلى كل امرأة تقرأ هذه الكلمات لا تنتظري من الحياة أن تمنحك ما تستحقين، كوني أنتِ القصة، وأنتِ البداية، وأنتِ التغيير فالعالم لا يتحرك إلا بخطواتك "


