الْحَنِينُ .. تِلْكَ الْخُدْعَةُ الْمَاكِرَةُ
الْحَنِينُ .. تِلْكَ الْخُدْعَةُ الْمَاكِرَةُ
بقلم : الكاتبة منال خليل
جلستُ على المقعد ذاته، في المقهى ذاته حيث اعتدتُ اللقاء به.
كل شيء تقريبا كما هو؛ الطاولات الخشبية الداكنة، رائحة القهوة الثقيلة التي تمتزج بدخان السجائر، وصوت فيروز الخافت ينبعث من مكبر الصوت القديم المعلّق عند الزاوية.
حتى الجرسون، ذو الملامح الجافة والعينين المرهقتين، لم يتغير، سوى أن بعض الشيب بدأ يغزو شعره الأسود المجعد .
لم يتغير شيء، سوى الغياب.
- رائحة القهوة تتصاعد، تعبئ الهواء بالذكريات، أجدني أشعر به جالسا أمامي، يبتسم وهو يحرك ملعقته الصغيرة داخل الفنجان، رغم أنه لم يكن يضيف السكر أبدا.
كنت أراقب عادته تلك وأضحك في سري متسائلة: كيف لإنسان أن يتظاهر بوجود شيء غير موجود؟
تماما كما أفعل الآن.
مددتُ يدي إلى الكرسي المقابل، أزحته قليلاً كما لو أن هناك من سيجلس عليه، ثم أدركتُ سخافة تصرفي.
أنا فقط أجلس مع ظلّ، مع ذاكرة لا تملك القدرة على الالتفات إليّ.
الحنين ، كم هو مخادع!
يجعلنا نرى الماضي بلون لم يكن له، يجعلنا نشتاق حتى إلى ما كان يؤلمنا، نبحث عن أصوات لم تعد تسمعنا، ووجوه لم تعد تلتفت إلينا لكنه أيضا دليل على أننا قد أحببنا بصدق، فأوفينا حتى بالفراق.
نظرتُ إلى فنجاني، رأيتُ انعكاس وجهي على سطح القهوة، فأدركتُ أنني لم أكن أشرب القهوة، بل كنتُ أبتلع الغياب، رشفة بعد أخرى.
تنهدتُ، وضعتُ بعض النقود على الطاولة ثم نهضتُ ببطء.
لم أكن متأكدة إن كنتُ سأعود إلى هنا مرة أخرى، لكنني كنتُ متأكدة من شيء
واحد : الحنين سيعود.
لأنه لا يحتاج دعوة، ولا يطرق الأبواب.
فهناك لحظات مرت بنا، كانت تستحق أن تُخلّد، لتهاجمنا من فوق أكتاف الحنين
كلما حاولنا الفرار مع النسيان.
الحنين مخادع، ساحر في التلاعب بذاكرتنا، يجمل الماضي كفنان بارع، يخفي التشققات وآلام الخيبات تحت طبقات من الطلاء والألوان.
يقودنا كمنوِّم مغناطيسيّ نحو أماكن لم تعد كما كانت، وأشخاص تغيّروا أو رحلوا لكنه لا يخبرنا أبدا بالحقيقة كاملة.
لملمت ذكرياتها مع حقيبتها وبعض من الحنين ثم ألقتْ نظرةً أخيرة على الطاولة على الكرسي الفارغ أمامها، على الفنجان الذي لم تكمله، ثم مضت.

