عندما ينام الفرعون ويصلي الولي
كتبت - دكتورة ميرنا القاضي
في مدينة الأقصر، حيث تعانق الأرض السماء، وتتماوج أنفاس التاريخ مع نسيم النيل، هناك يقف معبد الكرنك شامخًا كأعظم دار عبادة عرفها التاريخ القديم.وكأن الزمن قد جثا عند أعتابه إجلالًا.
إنه ليس مجرد موقع أثري، بل هو مرآة تعكس وجه الحضارات المتعاقبة، ومساحة مقدسة احتضنت أديانًا مختلفة،تحمل بين جنباتها صدى صلوات الكهنة وأناشيد الطقوس المقدسة. هناك، حيث يعبر الزمن ولا يفنى، حيث تتشابك الأساطير مع الواقع، تقف الحقيقة في أبهى صورها: معبد داخل مسجد داخل كنيسة! في هذا المشهد الخرافيّ تتجلى روح مصر الحقيقية، حيث لا صدام بين الحضارات بل تداخل يُشبه معجزة.
فمن أين بدأت الحكاية؟
أول سطور التاريخ: ميلاد معبد الكرنك
قبل أكثر من 4000 عام، عندما كانت طيبة (الأقصر حاليًا) عاصمة مصر، وُلد معبد الكرنك من قلب العقيدة المصرية القديمة كأكبر مجمع ديني في العالم القديم. لم يكن مجرد معبد، بل مدينة مقدسة بحد ذاتها بُنيت تكريمًا للإله "آمون رع"، الذي كان أعظم الآلهة المصرية.
امتدّ بناء الكرنك على مدار أكثر من 2000 عام، حيث أضاف كل فرعون لمسة خاصة إليه، حتى أصبح متاهة مذهلة من الأعمدة العملاقة، والصروح الضخمة، والبحيرات المقدسة. إن دخولك عبر "طريق الكِباش" هو بمثابة عبور نحو عالم آخر، حيث تحرسك تماثيل الكباش العظيمة، كأنها جنود يحرسون سرًّا خالدًا لا يُباح إلا لمن يستحق.
وفي قاعة الأعمدة الكبرى، حيث ترتفع 134 عمودًا بارتفاع ناطحات السحاب تتردد أصداء صلوات الكهنة وأناشيد القرابين، وكأنها لم تغادر المكان أبدًا.
لكن عجلة الزمن لا تتوقف، فما الذي جرى بعد سقوط العصر الفرعوني؟
الكنيسة والمعبد والسرّ الدفين
عندما أصبحت المعابد كنائس.
مع انتشار المسيحية في مصر خلال العصر الروماني، بدأت معابد الفراعنة تتحول إلى كنائس، حيث لجأ الأقباط إلى هذه الأماكن المقدسة لحمايتهم من اضطهاد الإمبراطورية الرومانية.
لقد جاءت المسيحية في عصرها الأول لتترك بصمتها فوق هذه الأحجار المقدسة وتحوّل المعابد إلى كنائس. مرّت السنون وبقيت الآثار شاهدة على عصور متعددة تترابط كما لو أن الزمن قد قرر أن يصنع أعجوبته في هذا المكان فقط، دون غيره.
لكن، كما عهدنا، فإن الزمن في الكرنك لا يعرف التوقف، وكان مقدرًا لهذا المكان أن يحتضن دينًا جديدًا.
عندما ينام الفرعون ويصلي الوليّ
المسجد فوق المعبد: قصة أبو الحجاج الأقصرى في القرن الثالث عشر الميلادي، جاء الشيخ يوسف أبو الحجاج من المغرب إلى الأقصر، حيث رأى في هذا المكان سرًّا عظيمًا، وجذب حوله المريدين حتى صار من أشهر أولياء الصوفية في صعيد مصر.
بُني مسجده فوق بقايا الكنيسة، التي كانت فوق المعبد، في مشهد لا يمكن أن يتكرر إلا في مصر! وهكذا، تجد نفسك أمام بناء فريد من نوعه: صرح فرعوني عظيم يحمل فوقه مسجدًا صوفيًّا، كأنما الزمن رفض أن يمحو أحدهما من ذاكرته، فاحتضنهما معًا في مشهد خرافيّ، لا يراه سوى العارفون بأسرار الوجود.
كل عام، يقام مولد أبو الحجاج، حيث تجوب المواكب الصوفية شوارع الأقصر وكأن الموكب الملكي القديم يعود للحياة لكن بروح جديدة.
"هنا سجد الكهنة، وهنا ركع الأولياء، وهنا وقفت أجيالٌ تبحث عن الإله في كل عصر"
تعايش الأزمنة وسرّ الخلود
في معبد الكرنك، ليس هناك صراع بين العصور، بل هو عناق سرمديّ بين المعبود آمون، والصلاة المسيحية، والذكر الصوفيّ، هنا لم "تقتل" طبقةٌ دينيةٌ سابقتها، بل تراكمت كطبقاتِ كتابٍ مقدسٍ مفتوح:
- النقوش الفرعونية: لا تزال تُخبر بحكمة "تحوت" إله العلم.
- الرسوم القبطية: على الجدران تُمجِّد مار جرجس.
- لمسجد: يُطلُّ من علوٍّ كحارسٍ للجميع. كأنما يقول لنا التاريخ:
"ما الإيمان إلا قلوبٌ تبحث عن النور، وما الزمن إلا حلقة تعود لتلتقي بذاتها!"
هنا، تتجاور المعتقدات بلا صدام، وتلتقي الأرواح في حضرة الأزل، بينما تهمس أحجار الكرنك بحقيقة لا يعرفها إلا من سمع صوت الريح بين الأعمدة، أو رأى ظلّ الزمن متكئًا على أعمدة الهيكل العظيم.
فهل هو معبد؟ أم مسجد؟ أم كنيسة؟ أم أنه ببساطة..تجلٍ سرمديّ للروح الإنسانية التي لا تموت؟