حجر رشيد : المفتاح السحري الذي أعاد إحياء صوت الحضارة المصرية القديمة
كتبت - دكتورة ميرنا القاضي
في عمق التاريخ، حيث تكمن الأسرار التي تحكي عن حضارة سطرت على الصخور والبرديات حكاياتها، كان حجر رشيد ينتظر دوره ليعيد فتح نوافذ الماضي. في لحظة منسية من عام 1799، بينما كانت الأرض المصرية تحت الحملة الفرنسية، انبعثت من بين الرمال قطعة بازلتية نادرة، ليست كباقي الأحجار، بل كانت المفتاح الذي سيغير مجرى التاريخ. هذا الحجر، الذي صمت لقرون طويلة، كان يحمل بين خطوطه لغزًا أضاء الطريق لعالم المصريات وأعاد للأذهان عظمة مصر القديمة.
حجر رشيد : رسالة من الماضي إلى الحاضر
حجر رشيد ليس مجرد قطعة من البازلت الأسود، بل هو مرآة عاكسة لعصر ذهبي يرتفع الحجر بوقار بارتفاع 113 سم ويكشف عن ثلاث لغات نقشت عليها: الهيروغليفية التي حملت أسرار الكهنة الديموطيقية لغة العامة، واليونانية التي خلدت ذكريات البطالمة. هذا المزج بين اللغات الثلاث جعله أشبه برسالة زمنية موجهة إلى أحفاد المصريين، تنتظر من يفك رموزها.
كتب الحجر ليحكي قصة الملك بطليموس الخامس في عام 196 قبل الميلاد،كان الحجر يمثل خطاب شكر وعرفان موجه من مجموعة من كهنة مدينة منف للملك بطليموس الخامس لإعفائه للمعابد من دفع بعض الرسوم .
لقد تم استخدام اللغة الهيروغليفية والتي كان الكهنة في ذلك الوقت مازالوا يستخدمونها كما أن عامة الشعب كانوا يستخدمون اللغة الديموطيقية ولذلك تم الكتابة على الحجر بالثلاث لغات حتى يستطيع الملك وعامة الشعب قراءتها ومع حلول القرن الرابع الميلاد كان عدد المصريين الذين يستطيعون قراءة اللغة الهيروغليفية قليل جدًا بأوامر من الملك الروماني ثيودوسيوس الأول عام 391م اندثرت اللغة الهيروغليفيه تمامًا ولم يعد يفهمها أحد .
الخطأ التاريخي حول فك رموز حجر رشيد
خلافًا للاعتقاد الشائع، لم يكن شامبليون ضمن حملة نابليون التي جلبت الحجر إلى العالم الحديث، بل كان طفلًا في الثامنة عندما اكتشف الضابط الفرنسي بوشار الحجر في رشيد.
أن حجر رشيد بقي مع علماء الحملة حتي جاء موعد الرحيل عن مصر عام 1801م
و كانت الاتفاقية تقضي بخروج جنود الحملة مصر ونقلهم إلى فرنسا علي سفن الأسطول الإنجليزي الذي يحاصر شواطئ الإسكندريةوأثناء خروج الفرنسيين من مصر أصر قائد الأسطول الإنجليزي هتشنسون أن يسلم الفرنسيين كل ما في حوزتهم من اكتشافات أثرية عثروا عليها في مصر إلى الإنجليز و منها حجر رشيد
وتم ذلك بالفعل و أخذ الإنجليز حجر رشيد وضعوه في المتحف البريطاني عام 1802م والذي مازال قابعاً فيه حتى الآن.
ورغم أن الحملة رحلت عام 1801 تاركة آثارها بيد الإنجليز، إلا أن الرحلة لفهم الكتابات المنقوشة استمرت عشرين عامًا لينجح شامبليون في فك رموز الهيروغليفية عام 1822، مستخدمًا ذكاءه اللغوي الفذ ومهارته في مقارنة النقوش المختلفة.
قد اتقن شامبليون اللغة اليونانية واللغة اللاتينية وهو في الثانية عشر من عمره
شامبليون وبداية علم المصريات
لقد تعرف شامبليون على أحد علماء الحملة ويدعى جان باتيست فورير الذي أعطاه بعض البرديات التي جلبها معه من مصر فانبهر شامبليون بشكل الكتابه لكنه علم من جان باتيست أنه لم يستطيع أحد فهم معنى تلك الكتابات حتى وقتهم هذا مما أثار اهتمام شامبليون فبدأ في تعلم اللغة العربية واللغة القبطية.
لقدتأخر ترجمة نصوص الحجر عشرين عاماً كاملاً كان سببه أن اكتشاف اللغة الهيروغليفية مر بمراحل عدة و بني على اكتشافات أولية مهمة يجب معرفتها
و أولها اكتشاف أن المنشور مكتوب بثلاث لغات مختلفة و أن الكلام المكتوب باليونانية القديمة هو نفسه المكتوب بالهيروغليفية و الديموطيقيةو كان ذلك عام 1799م.
لقد بقي الحجر بالمتحف البريطاني إلا أن علماء بريطانيا لم يستطيعوا فك رموز اللغة الهيروغليفية فأرسلوا نسخة بما هو مكتوب على الحجر إلى العلماء و المتاحف في كل أنحاء أوروبا و جاءت نسخة إلى فرنسا عام 1803م
و بدأت رحلة البحث و الدراسة والتي دامت 20 سنة حتى توصل في النهاية العالم الفرنسي جان فرنسوا شامبليون في باريس عام 1822م إلى فك رموز اللغة الهيروغليفية التي فتحت الطريق واسعا لدراسة الحضارة المصرية القديمة.
لقد تم اكتشاف أن اللغة الهيروغليفية كانت تستخدم رموز صوتية لنطق الكلمات اليونانية مثلا و كان صاحب هذا الاكتشاف توماس يونج عام 1814م.
إلى أن كان اكتشاف شامبليون للرموز الصوتية لنطق الكلمات المصرية
و كان عام 1822م
أما عن فك رموز حجر رشيد على يد شامبليون فقد تعرض لانتقادات واسعة فيما بعد فنتذكر ما جاء في كتاب معجم الحضارة المصرية القديمة الذي كتبه ستة من مشاهير علماء الآثار في العالم.
وهؤلاء العلماء هم :
جورج بوزنر ، وسيرج سونرون ، وجان يويوت ، وإدواردز ، وليونيه
وجان دوريس.
أن شامبليون استعان بنقش عثر عليه بجزيرة فيله في أسوان يحتوى على خرطوشتين ملكيتين لاسمي
” بطليموس وكليوباترا ” تشترك في حروف ( P , O , L ) واستفاد من نصوص مؤلف قديم مجهول وكان فيه شرحاً بطريقة غامضة.
ومن هنا انتهى شامبليون إلى أن القيمة الصوتية للرموز المصرية القديمة تؤخذ من الحرف الأول لاسم الشكل الذي يمثل ذلك الرمز .
فإذا ما تعرف شامبليون على رمز بحث عن اسم له باللغة القبطية وأخذ من ذلك الرمز الحرف الأول المنطوق بالقبطية وبذلك أمكن لشامبليون معرفة القيمة الصوتية للرموز الهيروغليفية من الحرف الأول للكلمة القبطية.
كذلك فشامبليون ملأ الفراغات الشاغرة في اللغة الهيروغليفية بتخمين المعنى القبطي للكلمة الإغريقية وسط الحروف التي تعرف عليها فأمكنه بذلك حل رموز 79 اسما ملكياً مختلفاً .
ولم يلاحظ أحد على مستوى العالم منذ مائتي عام حتى مؤلفا الكتاب أن الـ 79 اسم التي ترجمها شامبليون كانت كما قال مؤلفو الكتاب على لسان شامبليون أنها كانت بالتخمينات.
وبمزيد من الدراسات المقارنة أمكن
لـ شامبليون وفي عام 1822 أعلن "شامبليون" على العالم أنه تمكن من فك رموز اللغة المصرية القديمة وأن بنية الكلمة في اللغة المصرية لا تقوم على أبجدية فقط وإنما تقوم على علامات تعطي القيمة لحرف واحد وأخرى لاثنين وثالثة لثلاثة وأكد استخدام المخصصات في نهاية المفردات لتحديد معنى الكلمة.
وهكذا وضع "شامبليون" اللبنات الأولى في صرح اللغة المصرية القديمة وجاء من بعده المئات من الباحثين الذين أسهموا في استكمال بناء هذا الصرح الشامخ.
بين الخيال والعلم : محاولات العرب لفك الرموز
قبل شامبليون بقرون طويلة، حاول العلماء العرب استكشاف أسرار الكتابة الهيروغليفية، مثل أيوب ابن مسلمة والصوفي ذو النون المصري
وجابر بن حيان، و المقريزي.
أبدى بعض علماء العرب اهتماما كبيرا بالخط الهيروغليفي وخاصة علماء الكيمياء الذين تصوروا أن اللغة المصرية القديمة تحمل الكثير من أسرار الكيمياء خاصة تحويل المعادن العادية إلى معادن نفيسة.
ولقد ذكر عالم المصريات
الدكتور عبدالحليم نور الدين
في كتابه الفريد عن اللغة المصرية القديمة أن الاهتمام نفسه أبداه بعض علماء الصوفية اعتقادا منهم في أن غموض العلامات المصرية القديمة يتطلب جهدا للكشف عنه وكان العلماء العرب على دراية بالصور المختلفة للعلامات المصرية القديمة.
وأطلق العرب على اللغة المصرية القديمة اسم «لغة العصافير»، لاحتوائها على كثير من صورها حيث بدأ بحثهم فيها في صدر الإسلام فرأوا أن الخط الهيروغليفي طلاسم ورموز عسيرة الفهم وتوهم المهتمون بعلم الكيمياء أنها رموز عن عمل الذهب والفضة وتراكيب العقاقير ومنهم من رأى أنها رموز كهنوتية.
وحاول هؤلاء العلماء العرب في إطار ظروف زمنهم ومنذ قرون طويلة مضت أن يبرزا ليس فقط الاهتمام بالكتابة المصرية القديمة من خلال لفت الأنظار إليها وإلى الآثار التي سجلت عليها، بل حاولوا استنطاقها ليتعرفوا على شيء من حضارة الأجداد في مصر القديمة فبذلوا الجهد مدونين للنقوش ومحاولين معرفة دلالاتها الصوتية ومعانيها ودورها الوظيفي وفتحوا الباب للمستشرقين من بعدهم لينهلوا من علمهم وليبدأوا من حيث انتهى العلماء العرب إلى أن تكلل جهد شامبليون بالنجاح .
وبالفعل تمكن العالم الشاب شامبليون عام 1822م من فهم الحروف الهيروغليفية المكتوبة على الحجر وبذلك تم التوصل لفهم حضارة من أقدم الحضارات التي نشأت على الأرض وهي الحضارة المصرية القديمة و أسست لظهور علم جديد هو علم المصريات
حجر رشيد : شهادة على العظمة
حجر رشيد ليس مجرد أثر عابر، بل شهادة على عبقرية المصريين القدماء وإبداعهم.
بفضل هذا الحجر، لم نعد نقرأ فقط النصوص المنقوشة، بل نسمع صدى الحضارة المصرية القديمة وهي تحكي عن إيمانها، فنونها، علومها، وحياتها اليومية.
هكذا، يظل حجر رشيد نقطة التقاء بين الماضي والحاضر، بين الغموض والمعرفة وبين السرداب المغلق والإبداع البشري الذي لا يتوقف عن البحث والتقصي.