أَرْوَاحٌ مُعَلَّقَة عَلَى رُفُوف التَّجَاهُل
بقلم : الكاتبة منال خليل
الصمت أحيانًا ليس خيارا عابرا، بل خيانة ضمنية للحظة كان يجب أن تُقال فيها كلمة تُحيي القلب، أو تُطفئ نار الحيرة .
هل خطر ببالك يوما أن الصمت يمكن أن يكون أشد وقعا من الكلمات الجارحة؟
أن التجاهل قد يترك ندوب أعمق من
الفعل ذاته؟
"الصمت في الوقت الذي تحتاج فيه إلى كلمة هو نوع من الخيانة"
كما قال نيتشه .
فعندما يصبح الصمت قرار غير معلن من الطرف الآخر يأتي دور الخسارات المحسوبة.
"فنحن من نصنع إهمال من نحب لنا، حين نبسط ألمنا وكأنه عابر، ونتنازل عن حقوقنا وكأنها لا تهم"
هنا قال جان بول سارتر :
"نحن نصبح ما نسمح للآخرين بأن
يجعلونا عليه"
فالحب لا ينهار بالكراهية، بل يتلاشى باللامبالاة والتجاهل .
عندما نتحدث عن الألم، لا نتحدث عن الفعل بحد ذاته، بل عن غياب رد الفعل.
التجاهل في أوقات الشدة ليس فقط انكسارا عابرا، بل إعلان صامت بأننا لا نستحق الاهتمام ولكن، هل نحن ضحايا لهذا الإهمال؟ أم أننا شركاء في صنعه؟
الجريمة التي نرتكبها في حق أنفسنا والحقيقة المؤلمة هي أننا نغذي هذا الإهمال بأيدينا في كل مرة نتنازل عن حق بسيط، أو نخفي ألما خلف ابتسامة زائفة فنرسل رسالة ضمنية للطرف الآخر أن وجودنا مضمون، وأن حبنا بلا شروط.
فنصبح كمن يضع روحه في حقيبة أمتعة جاهزة للاستخدام عند الحاجة، ثم تُعاد إلى رفّ الإهمال .
في العلاقات، يأتي التجاهل في أوقات الشدة ليصبح السلاح الأخطر ليس لأن الطرف الآخر سيئ، بل لأننا نحن من نفتح الأبواب لهذا الإهمال حين نمنح كل شيء دون أن نطلب بالمقابل نتنازل، نبرر، نقنع أنفسنا أن "الآخر" يحتاجنا أكثر من حاجتنا له، فنصبح رهائن لحب غير متوازن وحين يطول الصمت، يتسلل الجفاء، وتتحول العلاقة من شراكة حية إلى واجب روتيني
ومن حب دافئ إلى شعور ثقيل لا يغادر الرفّ الذي تُرك عليه.
نحن، في لحظات ضعفنا، نبسط ألمنا كأنه عابر، نغلف انكساراتنا بابتسامات واهية ونبرر لمن نحب غيابهم عنا.
فنتنازل عن حقوقنا الصغيرة، عن كلمات الطمأنينة والاهتمام، حتى يصبح الصمت عادة والتجاهل حق مكتسب.
نحن الذين نصنع رفوف الإهمال التي تُلقى عليها أرواحنا، ونظل هناك كرهائن انتظار نتشبث بحب نعلم في أعماقنا أنه يتآكل.
هو التجاهل : ذلك القيد الذي نخشى كسره
فالتجاهل لا يعني فقط غياب الاهتمام
بل يحمل في طياته رسالة قاسية:
"أنت لم تعد مهمًا"
لكنه أيضا مرآة تضع أمامنا أسئلة مرعبة:
لماذا نبقى؟
لماذا نخشى المغادرة؟
ربما لأننا نخاف من الوحدة، لأننا نربط قيمتنا بما يراه الآخرون فينا، أو لأننا نخشى أن نواجه تلك الحقيقة الماكره:
أن الحب الذي كنا نظنه ملاذًا أصبح مصدر ألمنا. وهنا، يكمن جوهر الخسارات المحسوبة.
الخسارات المحسوبة :
هو قرار الضرورة المؤلم
أن تُصبح مجرد "وجود" في حياة من تحب، يعني أنك خسرت نفسك في سبيل علاقة لا تعطيك سوى الألم
لكن لماذا نخاف الخسارة ؟
لأننا كثيرا مانربطها بالفشل، بالمجهول بالوحدة، ومع ذلك فإن بعض الخسارات ليست سوى ولادة جديدة ،حين ندرك أننا عالقون في علاقة لا تعرف سوى الأخذ تتحول الخسارة إلى ضرورة، إلى فرصة لإعادة اكتشاف ذواتنا، لنتعلم كيف نكون محور قصتنا وليس ظلاً في قصة أحدهم.
أكثر ما يكشف هشاشة العلاقات هو غياب الردود في الأوقات الحرجة ،عندما تنتظر كلمة تطمئن قلبك ولا تأتي، عندما تنظر في عيون من تحب ولا تجد فيها سوى برود خالٍ من الحنان، حينها تعرف أن الحب تحول إلى عبء
عندها يكون
" اللاشيء أبلغ من كل شيء "
لكن، هل يمكن لهذا التجاهل أن يكون صرخة؟
نعم ، صرخة صامتة تقول:
"لقد انتهى كل شيء"
إنها تلك اللحظة التي تقف فيها أمام نفسك لتتساءل: هل ما زال هذا الحب يستحق أن أبقى؟
وأين تلك الأجوبة التي تحرك أقدامك من الأسر والعلاقة !!
أنظر على رفّ الحياة بجدار علاقتك مع الآخر وتلك الأمتعة المنسية.
"فوجودنا على رفّ ما" ليس قدرا، بل اختيار ، نحن من نقبل بهذا المصير عندما نصمت عن حقوقنا، ونُقلل من قيمة مشاعرنا، ونسمح لمن نحب أن يضعنا في خانة الأمان الدائم دون أن يشعر بأهمية وجودنا.
أن تكون في حياة شخص ما لا يعني أنك حاضر حقًا. قد تكون موجودًا، لكن كظل كاسم يُذكر في قائمة الأولويات الأخيرة كأمتعة محفوظة للاستخدام عند الحاجة.
الخسارة المحسومة كتحرر :
في النهاية، الخسارات ليست دائمًا نهاية بل أحيانًا تكون البداية. خسارة علاقة خالية من الحب الحقيقي هي خطوة نحو استعادة أنفسنا. إنها لحظة نختار فيها أن نكون لأنفسنا، أن نعيد ترتيب حياتنا بعيدًا عن رفوف الآخرين.
الخسارات المحسوبة ليست عدوا، بل حليفاً يدفعنا نحو النور والتحرر .
هي فرصة نعيد فيها اكتشاف ذاتنا، بعيدا عن الأدوار التي فرضناها على أنفسنا الحب الحقيقي والعلاقة الصحية لا يجعلونا على الهامش، بل يضعنا في القلب، حيث نُحَبّ ليس لأننا متاحون، بل لأننا نستحق
تذكر مقولة هنرى ثورو :
"أن تُعامل كأمر مفروغ منه هو أسوأ أشكال الإهانة"