الفنان محمد الملحي وأمواج قوس قزح الأطلسية لأصيلة
الفنان محمد الملحي
بقلم : الدكتورة أمينة المهدي
الأحد الموافق ١٥ سبتمبر ٢٠٢٤ - ٩:٣٠ PM
إن تجربة الفنان المبدع ترتبط أساسا بالبيئة والمحيط اللذين يعيش فيهما
وكذا طبيعته وظروف عيشه وتربيته وأخيرا تكوينه. ولكي يصل الى المقومات الإبداعية والنضج الفني الذي يطمح إليه عليه بالمثابرة والعمل الجاد والمتواصل.
قد يكون الدافع للرسم عنده حين يعتكف في مرسمه، الإبداع من أجل الإبداع
غير أنه بالنسبة لمحمد الأمين المليحي الفنان التشكيلي المغربي الذي نحن بصدد التحدث عنه فالقضايا الإنسانية هي التي تشغله وتدفعه في كثير من الأحيان للإبداع. قضايا إنسانية مصيرية كالقضية الفلسطينية مثلا، فتصير الأمواج الزرقاء زبدا ونارا تتموج باللهب بكل الألوان.
ولد محمد الأمين المليحي عام 1936م في أصيلة المدينة الساحرة الصغيرة ذات التاريخ العريق في أقصى شمال المغرب والتي تبعد عن طنجة ب حوالي 45 كلم.
أجداده استقروا هناك قبل ثلاثة قرون
أبوه يشتغل بالتجارة والوالدة حرفية مبدعة تصنع الأحزمة.
لقد كان من عادة المليحي الطفل، عند خروجه من المدرسة القرآنية التجول في أزقة المدينة المطلة على المحيط الأطلسي، حيث الامواج تشتبك بالصخور وترتطم على أسوار المدينة التاريخية.
صورة بقيت محفورة في ذاكرته البصرية كرمز مميز في تجربته التشكيلية لاحقا.
بدأ حبه للرسم طفلا، يستعيره من إخوته الأقلام الملونة فيرسم ويبدع؛ كان في الثالث عشرة من عمره عندما فارقت أمه الحياة، مراهق يسعى وراء الحرية وإثبات الذات، مما دفع الأب إلى جمح التصرف الاندفاعي لديه بأرساله إلى مدرسة داخلية بفاس، إلا أن ذلك لم يزده إلا إصرارا على التمرد، فتوقف عن متابعة تعلمه في منتصف دراسته الثانوية متحججا بالبحث عن ثانوية أفضل. فالتحق بالمدرسة التحضيرية للفنون الجميلة بتطوان دون موافقة والده. انصاع الأب أخيرا إلى قرار الشاب حيث ظهرت عليه علامات النبوغ في ذلك الميدان. فقضى هناك سنتين بين (1953 - 1955).
إن قرار الشاب والوالد كان صائبا فالمؤسسة التعليمية هذه توفر تعليما فنيا عالي المستوى.
بعد إكمال دراسته بمدرسة الفنون الجميلة بتطوان حصل على منحة دراسية لإسبانيا في المدرسة العليا للفنون الجميلة سانتا إيزابيل دي هنغاريا (1955) بمدينة إشبيلية، وبعدها الى المدرسة العليا للفنون الجميلة سان فرناندو 1956 بالعاصمة مدريد لتعميق دراسته، وصقل موهبته في فن الجرافيك والتصوير والنحت والرسم والنقش. وفي سنة1957 انتقل إلى روما العاصمة الإيطالية بمعهد استاتالي للفن.
لقد كانت فترة حاسمة في توجهه الفني وفي تشكيل وعيه وتطور أدائه الفني أيضا، وأتاحت له فرصة التعرف على تقنية الكولاج وعلى تيارات مختلفة المرجعية من تعبيرية وتكعيبية وهندسية وحتى غنائية.
وعرض أعماله دوليا ولأول مرة سنة 1957 في معرض "غاليريا تراست فيريه"، أعمالا وتجارب هندسية تبين تأثره بما درس في روما، ويظهركذلك فيما عرضه بطنجة سنة 1958.
ذهب إلى باريس للمدرسة الوطنية للفنون الجميلة؛ وحين حصل على منحة دراسية لسنتين من مؤسسة روكفلير التحق بجامعة كولومبيا (1962- 1964)، فدرس هناك الفن الحديث والتصوير الفوتوغرافي.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية، درس المليحي الفنون الجميلة في معهد مينيابوليس للفنون. ورسم هذا الفنان المغربي الشاب المبدع لوحة جصية كبيرة في كافيتريا المعهد، لوحة في فضاء واحدة من أعرق مدارس الفنون في الولايات المتحدة.
تفرغ للعمل على لوحاته وعمل أستاذاً مساعداً في "مدرسة مينيابوليس للفنون" لبعض الوقت.
لقد تبلور وعيه البصري وتطورت تجربته الفنية فظهرت عنده الألوان الجريئة والمربعات الهندسية الصغيرة وموضوع الموجة الذي يعبر على الإيقاع الموسيقي تارة، وعن الحركة والاثارة تارة، والماء والهدوء تارة أخرى، وفهم أهمية الانتماء إلى الجذور، ومعنى الهوية.
وقام بتطوير تقنية "الرسم ذو الحواف الناعمة". وفي سنة 1963، عُرضت أعماله التي نرى فيها تطابق الطبيعة العمودية للخطوط الهندسية مع الطبيعة الخطية للموسيقى في متحف الفن الحديث بنيويورك.
وعندما عاد الى المغرب التحق بمدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء كأستاذ ونظّم مع رفاقه معرضا
"الحضور التشكيلي" بساحة "جامع الفنا" بالمدينة مراكش 1969، فأخرج الفن التشكيلي من الرواق إلى الساحة والزقاق ودعا الى فن الجداريات كمظهر فني وفكري أدى إلى تأسيس مهرجان أصيلة الثقافي الدولي الذي كانت تحضره فعالية من القارة ولقاءات مع شخصيات مرموقة كالرئيس السنغال الشاعر ليوبولد سيدار سنغور، وأدونيس الأدبي والمفكر السوري وغيرهما. واستطاع المليحي إقناع فنانين مغاربة في إنجاز أعمال فنية على أسوار أصيلة.
عرضت أعمال المليحي من لوحات ومنحوتات في معارض محلية وعالمية وتزين حاليا لوحاته أروقة ومتاحف ومراكز فنية عالمية بعواصم كبرى وبشكل دائم وله معارض أخرى فردية وجماعية ومعارض استعادية.
إن المسيرة المهنية للمليحي تعدت التشكيل، لقد كان مدرسا أكاديميا في مدرسة الفنون الجميلة بالبيضاء وعضواً نشطاً في رابطة مجلة "سوفل" "أنفاس" الثقافية الفكرية اليسارية بين 1966 و1969 وصمّم غلافَها واقتنى متحف الفن الحديث في نيويورك ملصقَه الذي شارك به في معرض الرباط عام 1966.
وعمل مديرا للمجلة الثقافية التي أسسها "إنتجرال"، وشارك في تأسيس دار النشر "شوف" وأدارها، وكان كذلك مصمما جرافيكيا، صمم مجلات وكتبا ومناشيرا وشعارات مؤسساتية، وتزينت بأعمالِه الكثير من الكتب الأكاديميّة والمدرسيّة.
بوفاة محمد المليحي في 30 أكتوبر 2020، فقدت الساحة الفنية المغربية والعربية أحد روادها. فنان مبدع ومثقف متمكن، أحدث ثورة في المجال الفني وجمع بين العمل الإبداعي والثقافي الملزم وبين ممارسة الفن والكتابة كوسيلة شخصية للتعبير، وأسس لحركة الفن المتطرف في مدرسة الدار البيضاء للفنون.
نموذج ملهم للرسم والتعبير التجريدي أبدع وأوفى في التشكيل والزخرفة والنحت.