توظيف التراث الطبي في السياحة العلاجية
كتب د. عبد الرحيم ريحان
تمتلك مصر تراثًا طبيًا عبر كل العصور يمكن إحياؤه واستغلاله فى السياحة العلاجية ومن النباتات الطبية نبات الخردل الذى استخدم على نطاق واسع في علاج الكثير من الأمراض خلال العصر الإسلامي كما يتضح من المخطوطات والمصادر المتعلقة بهذا الشأن والذى يمكن توظيفه سياحيًا في مصر من خلال إضافته ضمن برامج التداوى بالأعشاب الطبية فى إطار السياحة الاستشفائية.
الاستخدامات الطبية لنبات الخردل في العصر الإسلامي وفى هذا الصدد نتصفح البحث الهام للدكتور محمد عبد السلام عباس أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية تحت عنوان "دراسة في إحياء التراث الطبي الإسلامي وإمكانية توظيفه سياحيًا"
والنبات الطبى هو النبات الذى يحتوى على المواد الأولية المستخدمة فى تحضير المواد الطبية ويعرف الخردل بأنه نوع من البقل ومنه الأبيض والأحمر والبستانى والبرى وله ورق كورق البلسان الذى هو ضرب من ضروب اللفت البرى إلا أن ورق الخردل أعرض وأعظم، ومن ثم فورقة نبات الخردل قريبة الشبه بورقة الفجل، وللخردل ساق ذات أغصان كثيرة وزهرة صفراء بداخلها حب صغير أحمر صلب.
كما يعرف الخردل Mustard أيضًا بأنه نبات عشبى يصل ارتفاعه إلى حوالى متر غزير التفرع وبخاصة الأغصان الموجودة في قمة النبات، وأوراقه بسيطة متبادلة، وهى مفصصة الأزهار صفراء اللون توجد على هيئة قرون رفيعة ذات لون أصفر بنى، وتحوى بذورًا صغيرة الحجم كروية الشكل، والأجزاء المستخدمة من النبات هى البذور والأوراق
وتحتوى البذور على مواد هلامية فى الطبقة الخارجية، والجنين يحتوى على 27% زيت،29% بروتين،4% جليكوسيدات السنجرين وأنزيمات الميروسين، بالإضافة إلى كميات صغيرة من ميزونات البوتاسيوم.
الخردل فى الأديان
يشير الدكتور محمد عبد السلام عباس أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية إلى أن الخردل ينتمي إلى الفصيلة الكرنبية، ويتميز بقدرته على النمو في الظروف الجافة، وأوراقه خضراء مشعرة، ومن أنواع الخردل ما ينمو في الصين، وتوجد بعض أنواع منه تنمو في الهند، وقد ورد اسم الخردل في القرآن الكريم }وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ }يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِير{ وهذا يكشف عن مدى صغر حجم الخردلة وهى في الموازيين تساوى اثني عشر فلسًا.
كما ورد الخردل في الإنجيل دلالة على هذا الصغر أيضًا، ونجد هذا في الكتاب المقدس " قال لهم مثلا آخر: يشبه ملكوت السموات حبة خردل أخذها إنسان وزرعها في حقله، وهى أصغر جميع البذور ولكن متى نمت فهي أكبر البقول وتصير شجرة حتى أن طيور السماء تأتى وتتآوى في أغصانها" ومنه أيضًا " بماذا تشبه ملكوت الله أو بأي مثل تمثله مثل حبة خردل متى زرعت في الأرض فهي أصغر جميع البذور التي على الأرض، ولكن متى زرعت تطلع وتصير أكبر جميع البقول وتصنع أغصانًا كبيرة حتى تستطيع طيور السماء أن تتآوى تحت ظلها"
الخردل فى الحضارات
عرف المصري القديم الكثير من النباتات والأعشاب الطبية التي تنمو في البيئة المصرية، حيث وجد أن بعضها يصلح للغذاء والبعض الآخر يصلح للدواء، واستخدم بعضها في تعطير الجسد وطرد الأرواح الشريرة، ومن ثم سجلت بعض أسماء وصور تلك النباتات على جدران المعابد المصرية القديمة.
وقد تم العثور على حبوب الخردل الصغيرة في الكثير من التجمعات السكنية القديمة في الكثير من أنحاء العالم، وكان للخردل رمزيات كثيرة في الحضارات القديمة، فقد اعتبره الفراعنة رمزًا لحسن الحظ، ومن ثم وضعوه في قبور الملوك مثل مقبرة الملك توت عنخ أمون.
وعرف الخردل في مصر القديمة أيضًا بأنه نبات حريف ينمو مع البرسيم، وعرف باسم" القرلة" وكانت البذور هي الجزء المستعمل من النبات، وهو من التوابل الحريفة المنبهة التي تحوى زيوتًا طيارة واستخدام وقتذاك كمضاد للالتهاب الرئوي والروماتيزم والذبحة الصدرية والنزلات المعوية والعصبية، وصنعت منه حمامات تصفية عند انقطاع الطمث عند النساء وكان استخدامه طبيًا بالأساس لجذب الدم من الجلد.
وتشير المعلومات المتوفرة إلى أن زراعة الخردل بدأت في الهند عام 300 ق.م، واستخدمه كذلك العبرانيون في الطبخ، حيث كان نبي الله إبراهيم عليه السلام يستخدمه في تحضير طبق لسان البقر، كما استخدمه الإغريق أيضًا في الطبخ ولأغراض طبية، وفى هذا الخصوص وصفه الفيلسوف فيثاغورس كعلاج للسعة العقرب، واستخدمه الحكيم أبقراط في صناعة الكمادات.
ومن الدلائل على طبيعة بذور الخردل القوية ما ظهر في الكتابات المتبادلة بين داريوس ملك الفرس والإسكندر المقدوني، حيث أرسل داريوس إلى الإسكندر كيسًا من حبوب السمسم للدلالة على عدد جنوده الرهيب، فرد عليه الإسكندر بإرسال كيس من حبوب الخردل للدلالة على العدد والطبيعة الحارقة لجنوده، وفى هذا الصدد أيضًا كان السومريون يطبخون حبوب الخردل الطازجة ويضيفونها إلى أطباق الطعام على موائدهم، ويضيفون إليها عصير العنب أو الحصرم لتحضير العصير الحادق المر القوى الطعم، ومنه اشتق اسم الخردل بالانجليزية"Mustard"
وتوضح الدلائل التاريخية أيضًا أن العرب قبل الإسلام استخدموا الكثير من الأعشاب الطبية في صنع الأدوية التي تدفع عنهم الأمراض، وتتطيبوا يبعضها، واستخلصوا الزيوت من بعضها الآخر لإنارة خيامهم.
الخردل كعلاج أمراض الباطنة
وينوه الدكتور محمد عبد السلام عباس إلى أن الخردل استخدم كدواء لعلاج الكثير من الأمراض التي تصيب البدن وتسبب له الأضرار التي هي بطبيعة الحال أمور خارجة عن الحالة الطبيعية للبدن حيث كان الأطباء خلال العصر الإسلامي ينظرون في أسباب الأمراض التي لحقت بالبدن أولاً ثم في حالة المريض ومن ثم يصفون له الدواء، ومن هذا المنطلق استخدم الخردل كعلاج من خلال دخوله في الكثير من الوصفات الطبية لمختلف الأمراض خلال العصر الإسلامي ومنها الأمراض الباطنية حيث أنه يدفع الفضلات من المعدة لحرارته ويقويها ويقوى الكبد وفى هذا الخصوص ونظرًا لطبيعة الخردل اليابسة فإن أكل ورقه يزيل وجع الطحال إلا أنه يشعر الإنسان بالعطش وبالتالي يفيد في علاج أوجاع الطحال المتولدة عن الرطوبة، كما يفيد في علاج صاحب الشهوة الكلبية وهو الشخص الذي يأكل كثيرًا ولايتخم، ويستخدم بنجاح في علاج القيء عند المرأة التي لايستقر الطعام في جوفها وذلك من خلال خلط الخردل مع الأسماك لمعالجة الرطوبات عند أصحاب الأمزجة الباردة وينقى المعدة من البلغم الضار بها، كما يستخدم الخردل مع الكمون والبقدونس في علاج نفخ البطن والريح التجشؤ وهى أمراض تتكون نتيجة برد المعدة وتراكم الأخلاط الغليظة والرطبة بها لتناول الأطعمة المؤدية لذلك مثل اللبن والجبن ونحوه من المأكولات التي تؤدى إلى الإمتلاء ولعل هذا مما دفع الطبيب ابن النفيس إلى القول بأن الخردل يفتح سدد المعدة إذا ما تم تناوله على الريق.
أمّا عن فائدة الخردل لمرضى الكبد، فنجد أنه إذا خلط الخردل مع السلق والفلفل والكمون نفع من السدد الحادث في الكبد نتيجة الأخلاط الغليظة وهناك طريقة أخرى لذلك عن طريق خلطه مع الفلفل والزعتر والسلق أو بخلطه مع السلق فقط ويذكر الشعراني في المختصر أن أكل الخردل بالخل والسلق يفتح سدد الكبد أيضًا، كما يعالج الرعشة الناتجة عن الحميات، وإذا دهن بدهنه الظهر والرقبة أدى إلى استرخاء الجسم، خصوصًا إذا خلط بماء الفلفل كما يفيد في قتل وإخراج الدود المتولد في البطن وعند خلطه بالعسل فهو علاج نافع لخدر الجسم واختلاجه.
علاج أمراض العيون
يستعمل الخردل في علاج بعض أمراض العيون، إذ أن للخردل القدرة على حد البصر وحل غشاوة العينيين فإذا خلط الخردل بالعسل واكتحل به أزال غشاوة العينيين وخشونة الأجفان وبنفس الشكل فإن تقطير الخردل المخلوط بالماء والعسل في العين علاج جيد لإزالة غشاوة البصر وإذا دق الخردل وأذيب في خل حادق نفع من علاج تهدل الأجفان.
علاج أمراض العظام والمفاصل وعرق النسا
يدخل الخردل في علاج أمراض المفاصل والعظام وعرق النسا وما يرتبط بهم من أمراض، فإذا تضمد به نفع من وجع النقرس وعرق النسا وفى هذا الخصوص يفيد خلط الخردل مع التين المدقوق ضمادًا في مداوة عرق النسا كما يستعمل دهن الخردل في علاج الأمراض الروماتيزمية المزمنة، وذلك عن طريق وضع لزقات طبية منه على موضع الألم ويفيد الدهن خصوصًا في علاج أوجاع الظهر، وبنفس الطريقة يفيد أكل الخردل المخلوط مع السندروس المحلول في زيت الكتان في علاج التهابات المفاصل، إذ أن للخردل قدرة على تليين أورام المفاصل الصلبة الناشئة عن الالتهاب.
علاج الأمراض النفسية والعصبية
ويوضح الدكتور محمد عبد السلام عباس أن الخردل استخدم خلال العصر الإسلامي في علاج بعض الحالات المرتبطة بالأمراض النفسية والعصبية، إذ أنه يفيد في علاج أمراض الأعصاب المرتبطة بتلك الأعضاء، حيث أنها يسخن تلك الأعضاء فيعود إليها الحس والحركة، ومن العلاجات التي يستخدم فيها الخردل والمرتبطة بالأمراض النفسية والعصبية علاج اللقوة (مقدمة الجلطة)
أو اللطمة والتي هي داء يصيب الوجه ويسبب اعوجاجه بحيث لا يستطيع الإنسان معها إغماض عينيه وهو داء ناتج عن اليبوسة والرطوبة، حيث ينتج عنها صعوبة الكلام وعسر حركة العينيين والتشنج، ويعتبر هذا المرض نذير للفالج والسكتة الدماغية، ومما يفيد في علاجها غسل الوجه بالخل المسحوق به خردل.
علاج الأمراض الجلدية
استخدم الخردل لعلاج بعض الأمراض الجلدية والتناسلية، ومن هذه الأمراض التي يدخل في علاجها الخردل داء الثعلب والذي ينتج عنه سقوط الشعر وعادة ما يستعمل الخردل البرى في هذا الشأن حيث عمل منه ضمادًا لهذا الداء وهناك طريقة أخرى تتلخص في أن يتم حلق رأس المريض ودهن رأسه بالخردل ثم غسلها بالحلبة، ومن الأمراض الجلدية التي يعالجها الخردل تنقية البشرة من الكلف والهالات السوداء الموجودة تحت العينين، ويتم ذلك عن طريق عمل مزيج من خليط العسل والخردل والزيت ثم يذاب الخليط على النار ويلطخ به الوجه وبهذه الطريقة يزيل الكلف وأثر الدم الميت من الجلد.
كما يعالج الخردل البهاق والحزاز والجرب والقوابى المتقرحة بحيث أنه إذا خلط بخل وطلي به على الجرب المتقرح والقوباء الرطبة أزالها وهناك طريقة أخرى لذلك، وهى سحق الخردل مع سلخ الحية وغلى المسحوق مع الخروع، ثم دهن الحزاز والقوابى وأن خلط الخردل بماء الكبريت نفع من البثور المتولدة على الجلد، وتوجد طريقة أخرى لعلاج الحزاز الجلدي عن طريق الخردل، وذلك عن طريق خلطه بدقيق الحمص والحلبة والنخالة والزجاج الأبيض المدقوق والمغمور بالماء والعسل، وإن كان الحزاز في رأس المريض تحلق وتطلى بالخليط، أما عن فوائد الخردل لعلاج مرض البرص فهو مفيد له إذا أؤخذ جزئيين من الخردل ودلك به الجسم بخرقة بعد غسل الموضع بالماء الحار ومن ثم فهو مفيد في علاج البرص وهناك طريقة أخرى يتم فيها استخدام الخردل لعلاج ذلك المرض عن طريق خلط لحم طير أبابيل والزيت والجير ودفن الخليط في مكان حار حتى يأكل بعضه بعضا، ثم يخلط بزريعة الخردل، ثم يطلى به البرص فانه نافع لعلاجه، ويشير الشعراني في المختصر إلى طريقة ثالثة لعلاج البرص عن طريق الخردل، وهى أن يدق الفجل مع الخردل الأسود، ثم يعجن الخليط بخل حادق، وبعد ذلك يدهن به صاحب البرص لمدة سبعة أيام متوالية في الشمس فانه يبرئ، وإلى جانب ذلك فانه للخردل فائدة واضحة في علاج الحكة الجلدية، وذلك عن طريق خلط رغوته مع طبيخ التين وطلاء الجلد وله فائدة أيضًا في علاج مرض الجذام بحيث أن المجذومين إذا استمروا على تناوله ابرأهم.
علاج الأمراض التناسلية
كما يفيد الخردل في علاج الأمراض التناسلية عند الجنسين، فنجد أنه عند الرجال يستخدم لتقوية القدرة الجنسية وذلك عن طريق خلطه مع دقيق الحمص الخالي من القشور والممزوج بالعسل والزنجبيل والفطس ثم يشرب هذا الخليط على الريق لمدة ثلاثة أيام أو خمسة متتالية ويعتبر هذا العلاج من الأدوية المقوية للباه، أما عند النساء فنجد أن النوع الأبيض من الخردل يدر الحيض عند المرأة وهو أيضًا مفيد وناجح في علاج النساء اللاتي يعانين من الاختناق نتيجة وجع الرحم وذلك إذا وضع الخردل في خرقة وشمت منه المرأة التي تعانى من اختناق الرحم خفف الاختناق ويدخل الخردل كذلك في تغذية الأم الحامل، وهو من باب تدبير النساء الحوامل وحفظ الجنين.