اقرأ التفاصيل
recent
أخبار عاجلة

تبريكات الأم المنجيّة

 تبريكات الأم المنجيّة 




بقلم - مؤمنات اللحام 


 أصبحت المنطقة ممزوجة بلحظات الاستسلام للرعب و الضعف و الدمار, خلت تماماً من رائحة الحياة، ما عدا صوتاً واحداً أبى أن يستسلم و ما يزال في عراك و صراع مع الألم, يطارد القوة النابعة من الأرض المباركة ويضمّد فيها شروخ انهياره النفسي و تصدّعات الحائط الذي اتخذه مأوى و سنداً له، يرسل التبريكات كل يوم لأهل القبور التي يسمع حسيسها كل ليلة ليستأنس بهم ويشعر بأنّه ليس الوحيد هنا تحت تلك الأنقاض المهجورة والمنسية بل هناك من يحاوره كل يوم.

كان المشهد من أكثر المشاهد المؤلمة التي يعجز فيها الخيال والوعي ترجمتها على الورق ببضع كلمات، خاصة أنّ الأفكار تعج في ازدحام شديد تتدفق من القاع و تصب في القاع نفسه؛ قاع الألم حيث يسود الصمت المطبق على العقل قبل اللسان و من هنا سقطت أول ورقة من أوراق الضحايا في جب البؤس لتكون هذه الضحية فريسة جديدة بطعم مختلف, و إن كانت لا تُشبع فهي تدغدغ احساس الشبع ليخلد للنوم قليلاً ثم يصحو على قرقرة أمعاء بطنه مجددا" يسمع صوتاً ينادي أمي! أعلم أنك مازلت ترقدين بجانبي، أشعر بأنفاسك المتناثرة من دفء هذا المكان، صدقيني أشعر بالدفء، لا تقلقي رغم كل هذا الركام الذي يحاصرنا و هذا الشبك الحديدي اللعين الذي حجبك عني و جعلني لا أرى سوى رأسك من الخلف و ضفيرة شعرك تلك التي ضفرتها بيدي لك، صحيح أنني لا أُجيد عمل الضفائر مثلك، لكنني حاولت قدر الإمكان كما علمتني أن أحافظ على شعرك دون أن أقتطع منه و لو شعرة من الجذور، كنت لطيفاً جداً يا أمي على شعرك، ومسحت بيدي الاثنتين على رأسك, لكن سامحيني نسيت أن أحزم نهاية الضفيرة بالمطاط, لذلك كان سهلاً على الشعر أن يبقى عالقاً بين الشبك، ربما لو وضعتها ما كنتِ بعيدة عني الآن، بيني و بينك أقل من متر لكنني لا أستطيع أن أقترب منك و لا حتى أن أُلامس شعرك, أتسمعيني يا أمي!؟

لقد قلت لي ذات مرة, إن لم أسمع كلامك، أو كذبتُ عليك بشيء، فلن تكلميني أبدا". والله يا أمي ما كذبت عليك سوى مرة واحدة: تذكرين عندما كنت جائعاً و لم يكن لدينا ما نأكله في البيت، سألتك أين رزقنا، أين أبي وإخوتي؟

لمَ كل الناس لديها أب و إخوة و الكثير من المتاع و الأرزاق و المال و الطعام و نحن لا نملك سوى صحونا فارغة و ملاعق معوجّة و بطانية مستهلكة، و ننتظر أحدهم أن يدق بابنا و يطعمنا, قلت لي حينها: أخذتهم الحرب, أكملت: و لماذا غيرنا لم تأخذ منه الحرب شيئا"؟ قلت: لأننا بؤساء و فقراء, رددت عليك: و هل الفقر و البؤس عيباً، أو حراماً، أو عدواً لتأخذ الحرب منه أغلى ما يملك؟ أتذكرين ماذا قلت؟ لا عليك يا أمي أنا ما زلت متذكر قلت لي: أريدك أن تكبر و تصبح أغنى و أقوى رجل في العالم و تحارب الفقر و الظلم من جذوره و تنتصر, حتى لا تأخذ الحرب من أحد أغلى ما يملك، و نعيش بسلام، فقلت لك: سأفعلها و أنا لا أخاف أبداً من الحرب و أنا أقوى من الحرب ومن كل شيء و سأنتصر!

هنا يا أمي كذبت عليك، هذه الجملة عندما نطقتها كان قلبي يرتجف خوفاً. لا يا أمي أنا أخاف من الحرب و أضعف منها، سامحيني، انظري يا أمي ألا ترين ماذا فعلت بنا؟ لقد سمعت ما قلته، و ها نحن هنا تحت الأنقاض, أخاف إن تكلمت أكثر أن تأخذك الحرب مني, أنا أضعف مما تتخيلي يا أمي، صحيح أنني أسند رأسي على هذا الجدار المتصدع الذي يسمح للهواء و البرد الدخول إلى عمق رأسي و يجعلني أرتجف، لكن صدقيني يا أمي أشعر بالدفء لأنك معي، و خائف قليلاً فأنا قد تعودت أن أعانقك كل ليلة و أشعر بالأمان في صدرك، و أغفو سريعاً، أفكر كيف سأنام هذه الليلة و أنا لست بين أحضانك، ألا تستطيعين يا أمي الاقتراب قليلاً؟ قليلاً فقط !

أما الأم المسكينة أنفاسها تعلو و تنخفض و كأنّها تُطلق سيمفونية الإحتضار بإيقاع مضطرب و الطفل لا يزال متشبثاً ببقايا الحديد الشائك بينهما خوفاً من الإنزلاق في جوف الأرض واثقاً باستفاقة أمه بعد لحظات و يردد 

قائلاً: إنّ هذا المكان ذكرني عندما كنت جنيناً في بطنك 

يشبه الظلام الذي كنت أتعايش معه طيلة الوقت لكن كنتِ أنت يا أمي خارج هذا الظلام، الآن أشعر أننا سنخرج من هذا الظلام إلى النور سيكون لنا ولادة أخرى من رحم هذة الكارثة صدقيني يا أمي، ألا تثقي بي؟!

فانتفضت الأم بعدها و كأنّها تلقّت صدمات كهربائية لتُعيد النبض لقلبها من جديد و هي تأنّ و تنادي ابني!أسمعك اصمد فالصمود خُلق للأقوياء، سننجو، سيرسل الله المؤازرة، تزحزح مع صوتها الشبك الحديدي قليلاً ليمّهّد لها طريق الخروج و الطفل تغمره سعادة عارمة لسماع صوت أمه فيقول لها: كنت أعلم أنك تحبيني و لن تتركيني لوحدي و أنا أحبك و لن أفارقك أبداً ، أعدك بذلك. 


google-playkhamsatmostaqltradent