اقرأ التفاصيل
recent
أخبار عاجلة

الساكسونيا والكانتو في التراث المصري

 الساكسونيا والكانتو في التراث المصري




كتب - د . عبد الرحيم ريحان


دراسة تاريخية للدكتور محمد أحمد إبراهيم  أستاذ التاريخ الإسلامى بآداب بنى سويف تلقى الضوء على الساكسونيا والكانتو في التراث المصري.



وتعد تجارة الساكسونيا من المهن التي كانت رائجة في الحواري والأزقة وشاهدها الكثير منا ونحن أطفال، فكنت تري رجل طويل متوسط العمر يحمل فوق رأسه قفص كبير من الجريد به بعض الأطباق الصيني والصواني وشفاشق المياة، ويحمل في كتفه مخلة أوكيس قماش كبير منتفخ، مناديًا علي أهل الشارع أوالحارة

( ساكسونيا .. كامبيو) فتهرع النساء من الشبابيك والبلكونات باستيقافه وعرض مالديهن من الملابس القديمة أوالمستعملة مقابل الحصول علي طبق أو صينية أو جردل أو طشت بلاستيك، ولم نكن ندرك وقتها ما المقصود بعبارة ( ساكسونيا) حتي وقت قريب لكننا كنا ندرك اننا تخلصنا من ملابس وأحذية قديمة مقابل صفقة لاستبدالها بأشياء جديدة للمنزل.



ويشير الدكتور محمد أحمد إبراهيم إلى أصل كلمة ساكسونيا التى ترجع إلى اللغة  الإيطالية وتعني الأواني من البورسلين التي كانت تصنع في ساكسونيا 

( منطقة في شمال ألمانيا) وهي في الوقت نفسه اسم لطراز من الأطباق الصينية التي شاعت في الثلث الأول من القرن العشرين

 وهو عبارة عن طبق غويط منقوش من الحواف وله غطاء مقبب منقوش أيضًا وكان هذا الطبق جزءًا مهمًا من جهاز كل عروس وبخاصة في الريف، ثم امتد المصطلح ليشمل كافة المنتجات الراقية من الصيني التي بدأت تظهر في المجتمع المصري .





وقد شاعت تجارة الساكسونيا بين بعض الرجال ممن ليس لهم مهنة محددة

 أو قادمين من الصعيد أو وجه بحري فيقوم بحمل بعض هذه الأواني والأطباق واستبدالها بالملابس المستعملة، فكانت تجارة تقوم في الأساس علي التبادل والمقايضة، وهي بطبيعة الحال تختلف عن تجارة الروبابيكيا التي كان يتم دفع نقود بها مقابل شراء الأشياء القديمة

 أو مانسميه ( الكراكيب) من أشياء خشبية أو أجهزة تالفة أو مستعملة  وكلمة روبابيكيا أيضا ايطالية من roba  

و vecchia بمعني أشياء قديمة وقد استبدل العامة حرف( v) في فيكيا بحرف الباء ربما لأن حرف(v ) دخيل علي اللغة العامية، كان بعض باعة الروبابيكيا ينادون( روبابيكيا.. بوتيليا) لأنهم كانوا يحرصون علي شراء الزجاجات الفارغة خاصة من البارات والخمارات وبعضهم كان يقوم بتنظيفها وغسلها ونزع الغلاف الدال علي ماركة الخمور ( التيكت) وبيعها للمنازل خاصة بعد ظهور الثلاجات

 وقد تركز تجارالروبابيكيا في عدة أماكن في القاهرة وضواحيها منها: 

عزبة أبو حشيش في غمرة وشارع العشرين بمساكن عين شمس وعزبة 

أبو قرن بمصر القديمة، وكان لهم معلمين يمدونهم بالمال لشراء الأشياء المستعملة التي يتم فرزها وتصنيفها وتصليحها وإعادة بيعها مرة أخري .



ويضيف الدكتور محمد أحمد إبراهيم أن حصيلة تجميع بائعي الساكسونيا للملابس كانت تذهب إلي أسواق الكانتو، وهي كلمة أيضًا ايطالية تعني ( ركن – جانب – طرف ) وهي الأسواق الشعبية في الحواري الجانبية التي كانت تباع فيها الملابس المستعملة بعد فرزها وغسلها بالماء الساخن وكيها.



وقد بدأت أسواق الكانتو مع الاحتلال الإنجليزي لمصر إذ كانت تعتمد تجارتها علي مخلفات الجيش الإنجليزي من الملابس والأحذية ثم انتشرت في أماكن عدة في مصر

 (الإسكندرية – العتبة – وكالة البلح )

 كما ساهم في رواجها اليهود والإيطاليين والشوام حتي دخل المصريين إليها خاصة في وكالة البلح بعد رحيل اليهود من مصر وبيع محلاتهم، وتعد فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر هي فترة رواج سوق الكانتوا في كل أرجاء مصر خاصة بعد تصفية الأجانب أعمالهم وهجرتهم من مصر.



وراجت تجارة الكانتو خاصة في سوق بياصة الشام بالإسكندرية ووكالة البلح في القاهرة والعتبة وأصبحت الملاذ لبعض الأسر الفقيرة لشراء الملابس المستعملة لهم ولأبنائهم خاصة بعد قانون الإنفتاح الإقتصادي في عصر السادات، إذ عرفت مصر استيراد بالات جمع (بالة) الملابس المستعملة من بعض الدول الأوروبية عن طريق ميناء بورسعيد ليتم فرزها وتصنيفها حسب جودتها وبيعها مرة أخري داخل الأسواق الشعبية وهي مستمرة حتي الآن بعد إدخال بعض التغييرات علي نوعية الملابس التي أصبح منها مايحمل ماركات عالمية ومن دول مختلفة، فضلًا عن إقبال الكثيرين من الشباب والفتيات علي الشراء منها جهرًا بعد أن كان الشراء في الماضي  يتم سرًا تحقيقًا للممثل الشائع

 ( الهدوم ياما بتداري)

وقد أشارت بعض أفلام السينما لذلك في فيلم اسماعيل ياسين ( المليونير ) عندما أمر الخادم ببيع ملابس البهوات الذين خسروا أمامه في لعبة القمار مردفًا العبارة الشهيرة 

( ماتنسوش تمشوا من علي البلاج ) 

بعد أن جردهم من ملابسهم، ومن المفارقات  الساخرة التي كانت تحدث قديمًا في أسواق الكانتو أن يجد المشتري بعض الكروت الشخصية لبعض الشخصيات المهمة للبشاوات أو البكاوات ممن مال بهم الحال وبيعت ملابسهم في سوق الكانتو، أو أن يجد بعض الورقات التي بها بعض العبارات أو الأحجبة خاصة داخل البدل .



أمّا عن العبارة الشهيرة التي يرددها البعض ( قانون ساكسونيا) يوضح الدكتور محمد أحمد إبراهيم أنها تشير إلى مقاطعة ساكسونيا الألمانية في حقبة العصور الوسطي حيث كان هناك قانون خاص بها ينص علي معاقبة من تثبت جريمته بقطع رقبته إن كان من عامة الشعب وبمعاقبة المجرم من طبقة النبلاء والأثرياء بقطع ظل رقبته فقط،  وذلك عن طريق وقوف المجرم من الأثرياء ممشوق القامة بكامل ملابسه الأنيقة، ويقوم الشخص المكلف بتنفيذ حكم قطع الرقبة بالنزول بالسيف علي ظل الرقبة أمام الرعية أو عامة الشعب ممن يبتهجون بتنفيذ حكم العدالة

 ( عدالة ساكسونيا).



انقرضت تجارة الساكسونيا ولم نعد نري رجالها في الشوارع والحارات، بعد أن أصبح الشعب لايمتلك ملابس قديمة لبيعها أواستبدالها بل أصبح يشتريها من الأسواق الشعبية في كل مكان من كل طبقات وفئات الشعب، فضلًا عن تبرع البعض بالملابس للجمعيات الخيرية أو المساجد طلبًا للثواب، وكأن الساكسونيا أصبحت شعار كل الشعب لافرق فيها بين غني وفقير .

google-playkhamsatmostaqltradent