الفنان خلف طايع
بقلم : د/ إيناس الهندى
هذه محاولة لقراءة إحدى لوحات الفنان خلف طايع، لنتعرف على لمحة من عالم الفنان الواسع الرحب.
خلال تأملي واستمتاعي على مدار سنوات بتلك البورتريهات التي تعكس مكنون أصحابها، وجدت نفسي فى حيرة شديدة لإختيار لوحة كي اتحدث عنها، فإخترت لوحة رسمها الفنان لنفسه عام 2008.
خلف يعشق اللون ويعزف به على سطح اللوحة بل ويتداخل معه عاكسا عالم شديد الخصوصية نسجه حوله بروح متعطشة للون والاندماج فيه، وان كانت الصحافة قد اخذته كثيرا، ولكنه لم يحفل، كان فقط يرسم بلا توقف.
تارة يرسم لوحات زيتية بالفرشاة واللون يغزل بها هذا العالم الذي سوف ندخله عندما نقرأ اللوحة، وتارة كثيرة يرسم لوحات صغيرة بالقلم الرصاص أو الحبر لتنشر في جريدة القاهرة.
وعلى عكس لوحاته الزيتية نجد أن رسوماته للبورتريه بالقلم الرصاص تميزت بديناميكية، وحركة، وانفعال مع مسحة من الحرية والاقبال على الحياة نتيجة استخدامه خطوط صغيرة، قصيرة، متنوعة الاتجاهات، والقوة، والطول، تضفي حيوية على تلك الرسوم.
لقد تميز اسلوب الفنان بمسحة من السريالية، وهى تعتمد على ما وراء الواقع ويحاول الفنانون عموما أن يعبروا عن العقل الباطن بطريقة خالية من النظام والمنطق، لكن على العكس صنع خلف طايع عالم خاص به وراء الواقع لكنه يخضع لنظام صنعه لنفسه يعتمد على البساطة والجمال.
وكما رسم الفنان اليوناني المولود فى ايطاليا جورجيو دى كيريكو الجانب الميتافيزيقي من مدينة تورينو، رسم الفنان المصرى خلف طايع الجانب الميتافيزيقى من مدينة الاسكندرية فى مساحات ملونة خالية من البشر يحتلها البحر في مساحة يرغب الفنان فى العبور لها.
كان تركيزه على البناء المعمارى للوحة حيث كان يهتم بتوزيع اللون ودرجات الغامق والفاتح، ليحسب دوران العين داخل اللوحة، وثبات ورسوخ الكتلة والفراغ.
إن عالم طايع يشبه ظاهريا عالم الفنان رينيه ماجريت إلا انه يختلف عنه من حيث الواقعية وعدم إثارة الغرابة، فهدف رينيه هو تحدي تصورات المشاهدين للوحاته حول مفهوم الواقع وإجبارهم على أن يصبحوا شديدي الحساسية تجاه ما يحيط بهم، عن طريق المبالغة الى حد الاختناق بالاشياء، عكس خلف الذي كان يلفت النظر الى جماليات الاشياء دون مبالغة أو غرابة.
ونجد أيضا ان الفنان خلف طايع يشترك مع الفنان مصطفى أحمد في شعوره بالغربة وتعبيره عنها في هيئة مباني ملونة بألون دسمة، والاحساس بكتلة العنصر المرسوم وثقله، والوحشة فى لوحاته والخوف من المجهول.
وأهم ما يميز لوحات طايع هو تأكيده على الكتلة وكثافتها ورسوخها باللون، وبحساب العلاقة بين الكتلة والفراغ، وألوانه القاتمة والغارقة فى سكون اللوحة والمبتعدة عن البهرجة.
ورغم ذلك لم يحاول إثراء سطح اللوحة بملامس تغني عن بساطة اللون وقتامته، بل كانت السطوح ملساء كأنما لم يشغله ذلك الانفعال، بل تعمد كونه محافظا فى أداءه دون أن يغامر بتشتيت نفسه بتقنيات معقدة.
لقد رسم الفنان نفسه بين جدارين بينهما فتحة ضيقة ينظر من خلالها الى البحر والفضاء الواسع، وكأنها برزخ يمر به من عالمنا الى عالم ارحب تمناه دوما، انه فى هذه اللوحة يعطينا ظهره تقريبا ليواجه البحر الحلم، والحائط الذى أمامه أو الجزء المقابل له من اللوحة باللون الأحمر الغامق، والحائط الذى خلفه باللون الأزرق، وهما لونين متضادين، وقف بينهما حائرا رغم أن مساحة اللون الأحمر غالبه عن اللون الأزرق، لقد اختار هذين اللونين ليعبر عن صراع الحياة الغارق فى المتناقضات، لكنه رغم ذلك الصراع اللونى كان ينظر الى ما وراءه.
لقد احتل وجه الفنان النسبة الذهبية فى العمل الفنى، حيث تمتاز تلك النسبة بالإستحواذ على النظر وموقعها هو الأهم فى ثلث اللوحة، أما باقى اللوحة فقد اختار لها مساحات واسعة من اللون دون تفاصيل تشتت الإنتباه، مما يعود بنا للأماكن الخالية فى لوحات دي كيريكو والعالم الخالي من الناس الذى ينسجه فى لوحاته.
إن الفنان حينما يرسم نفسه في لوحة فإنه ينقل الينا حالة يشعر بها، و يعطينا لمحة عن عالمه الداخلي، وعالم خلف طايع تكسوه مساحات كبيرة من العزلة والوحدة والصمت، وقد أكد ذلك بأن رسم نفسه يرتدي اللون الاسود، وبلمحة تقارب البروفيل نرى جانب وجهه يعلوه اهتمام بالبحر ذلك العالم الفسيح الذى يراه ولكنه محاصر بين جدارين يراقبه عن بعد لكنه يرغب فى العبور الى تلك المساحة من اللوحة، وعند النظر الى اللوحة نجد خلف طايع يسحبنا الى قلب اللوحة مباشرة دون أى مقدمات من اليمين أو اليسار فى اللوحة، فنجدنا فى مساحة النور الزاحف الى مساحة الظلام المغلفة لوجه الفنان نحاول ان نجد للفنان حلولا حتى يعبر الى النور والرحابة.
لكن خلف طايع وجد لنفسه حلا، فعبر بعد ست سنوات الى عالم الروح وعالم النور وعالم الرحابة، وغادرنا فى صمت تاركا خلفه إرثا من المحبين الذين عرفهم وعرفوه والذين لم يعرفهم...
هذه قراءة سريعة لإحدى لوحاته لعلها تضيف لمحة عن حياته.