المراقبة
المراقبة
إعداد وتقديم
علاء الدين عبد الرحمن
يقول الحق تبارك وتعالى
﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الحديد: 4].
وما أحوج البشرية إلى مقام المراقبة، في زمن كثرت فيه وسائل المكر والخديعة، وتعددت فيه وسائل الغش والتزوير، وقلّ فيه الخوف من الله العلي القدير.
حقيقة المراقبة:
المراقبة: هي دوامُ علمِ العبد، وتيقنُهُ باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه.
أن يكون العبد على علم ويقين أن الله تعالى ناظر إليه، سامع لقوله، مطلع على ظاهره وباطنه، عالم بسره وعلانيته، لا يخفى عليه شيء من أقواله وأفعاله، لا يغيب عنه شيء من أحواله وخواطره.. فهو سبحانه وتعالى العليم الخبير، السميع البصير، الرقيب الشهيد .
منزلة المراقبة ومكانتها:
مراقبة الله في السر والعلن دليل على قوة إيمان العبد بالله عز وجل، وباسمه الرقيب الذي هو اسم من أسمائه الحسنى الدالة على عظمته وجلاله وكماله، فهو الرقيب الذي لا يغيب عنه شيء من أمور خلقه، الحفيظ الذي لا يَغفُل، الحاضر الذي لا يَغيب، العليم الذي لا يَعزب عنه مثقال ذرة من أحوال خلقه، يرى أحوال العباد، ويُحصي أعمالهم، ويُحيط بمكنونات سرائرهم، فهو مطلع على الضمائر، شاهد على السرائر، يعلم ويرى، ولا يخفى عليه السر والنجوى، قال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾. وقال عز وجل عن نبيه عيسى عليه السلام: ﴿ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المائدة: 117].
إنه الرقيب سبحانه، الذي لا فرق عنده بين الظاهر والباطن، ولا بين السر والعلانية، لا يخفى على سمعه شيء، ولا يغيب على بصره شيء.. قال سبحانه: ﴿ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [يونس: 61].
فمن تكلم علمَ الله تعالى نطقَه، ومن سكت علم الله عز وجل فِكرَه، ومن أسرّ أحاط الله بسريرته، وعلم ما يجول في خاطره، ﴿ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [الملك: 13].
الذي يستحضر مراقبة الله عز وجل لا يقصر في حق الله عز وجل.. لا يضيع الفرائض، ولا يترك الواجبات، بل يجد ويجتهد فيما يرضي الله عز وجل من صالح الأعمال.
والذي يستحضر مراقبة الله عز وجل لا يتجرأ على محارمه، ولا يُسرف في معصيته، لأنه على يقين أن الله يسمعه ويراه، فيخاف من الله، ويستحيي من الله، ويبتعد عما حرمه الله في سره وعلانيته، وظاهره وباطنه، فيما بينه وبين خالقه، وفيما بينه وبين خلق الله، وهذه وصية نبينا صلى الله عليه وسلم لأمته: "اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ». رواه الترمذي وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
فمن راقب الله في خواطره، عصمه الله في جوارحه، فلا يستعملها إلا فيما يرضي خالقه ومولاه، يحفظ جوارحه من الحرام، ويستحي من الله أن يقترف بها سوءًا أو يجره إلى مسلم، وهذا هو الحياء الذي هو من حق الله على العباد. فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استحيوا مِن الله حقَّ الحياء". قال: قلنا: يا رسول الله إنَّا لنستحيي، والحمد للَّه. قال: "ليس ذاك، ولكنَّ الاستحياء مِن الله حقَّ الحياء: أن تحفظ الرَّأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، وتتذكَّر الموت والبِلَى، ومَن أراد الآخرة، ترك زينة الدُّنيا، فمَن فعل ذلك، فقد استحيا مِن الله حقَّ الحياء". أخرجه الترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
مراقبة الله في السر والعلن من أسمى مقامات الدين، وأعلى منازله؛ فهي تفسير لمعنى الإحسان الذي هو أعلى درجات الدين وأفضلُ منازل العبودية؛ بل هو حقيقتها ولبها وروحها وأساسها، وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.. كما ثبت في حديث جبريل المشهور، حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم مَا الإِحْسَانُ؟ فقَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ». متفق عليه.
"أن تعبد الله كأنك تراه" أن تحسِنَ عملك الذي أمرك به ربك سبحانه، كأنك تراه وهو ينظر إليك؛ فتكون حاضرَ الذهن، فارغَ النفس، مستجمِعَ القلب، كما لو كنت تشاهد ربك سبحانه، فتستحضرُ عظمته، وجلاله، وكماله، وجماله. وتستحضر أنك في حاجة إلى رحمته ومغفرته ورضوانه.
"فإن لم تكن تراه فإنه يراك" أي فإن لم تستطع أن تبلغ بعبادتك إلى مستوى مَن يعبد الله كأنه يراه؛ فاعبدِ الله وأنت على يقين أنه مطلع عليك، ناظر إليك، فاستحضرْ مراقبة ربك في كل ما تقول وتعمل، وتذَكّرْ دائما أنه يراك.
نعم إنه يراك.. يراك ويعلم سرّك ونجواك.. في الصحراء يراك.. في الجو أو في البحر يراك.. إن كنت وحيداً يراك، وإن كنت في جمْعٍ يراك.. ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [المجادلة: 7].
وأخيرا مع ثمار المراقبة:
إخوتي الكرام؛ ما أحوجنا إلى استحضار مراقبة الله عز وجل في كل وقت وحين، فمنافعها كثيرة، وثمارها جليلة، فهي طريق إلى سعادتنا في الدنيا والآخرة.
مراقبة الله في السر والعلن طريق إلى إتقان العمل وإحسانه: ونبينا صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن الله عز وجل يحب من عباده أن يتقنوا أعمالهم ويحسنوها، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ».
والذي يستحضر مراقبة الله عز وجل، لا يقصّر في عمله، ولا يغش في وظيفته، بل يجتهد في إتقان عمله وإحسانه، خوفاً من الله، وحياء من الله، وطمعا فيما عند الله.
مراقبة الله في السر والعلن طريق إلى الجد والاجتهاد في الطاعات والقربات، ووقاية من الوقوع في الفواحش والمنكرات:
فمراقبة الله عز وجل تحيي القلوبَ المَوات، وتوقظُ الضّمائِرَ مِنَ السّباتِ، وتحَرِّكُ في الإِنسانِ دَوَاعِيَ الخَيْرِ، وتُمِيتُ فِيهِ نَوازِعَ الشر.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يتقيه في السر والعلانية، ويخشاه في الغيب والشهادة، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغني، ونسألك اللهم نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، ونسألك برد العيش بعد الموت، ونسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين، يارب العالمين.