اقرأ التفاصيل
recent
أخبار عاجلة

قراءة في رواية الكاتب عوني صادق "همس السنين"

 قراءة في رواية الكاتب عوني صادق "همس السنين"

               


                          

       د/ سلامة تعلب.. الناقد الأدبي


   هذه الرواية عمل رائع بذل فيها الكاتب مجهودًا إبداعيًا يحسه القارئ في كل صفحة من صفحاتها، وحملت العديد من المعلومات والأحداث التاريخية المتبلة بطعم الفن الروائي الجميل القادر على فهم التاريخ بمتعة الفن، وتميزت الرواية بما يلي:

أ-تكنيك الرواية:

*بدأت الرواية بتمهيد بديع في التكنيك الروائي (قطب الحضري) لإضاءة أولية وبانورامية لجو الرواية،

 ومحاور أحداثها، 

وحقبتها التاريخية،

 وهي بداية موفقة وواعية،

 بها كل شيء: أحداث، شخصيات، مواقف، أماكن، أزمنة، لغة، تشويق، وفيها استغناء عن الشخصية الرئيسة وإخفائها  ( قطب الحضري) باختصار وثراء وذكاء، وكل ذلك في صفحة ونصف في بداية الرواية.

*اختيرت عناوين الفصول بدقة وعناية، وجُعلت بأسماء الشخصيات؛ لتدير الشخوص الأحداث متحركة بها ذهابًا وإيابًا في حركة دينامية حية موقظة للقارئ والمتلقي.

*دائمًا ما تبدأ الفصول بداية زمانية مكانية وصفية جمالية، كاشفة(بصريًا) ناطقة(سمعيًا) وهو ما يعرف بحسن الاستهلال، 

كما في صـ8، 32، 37، 42، 67

تنتمي الرواية لنوع الرواية التاريخية الواقعية، المطعم بالرومانسية ومذاق الفن الروائي الشيق.

*اعتمد الكاتب على تكنيك القطع عبر اللقطات السينمائية خلال فصول الرواية، متنقلاً بنا من مشهد إلى آخر، مع ربط تلك المشاهد بواسطة علاقات الشخصيات بالأحداث والأماكن عبر الزمن...

*الرواية مجموعة من القصص القصيرة لكل شخصية، ترتبط عُقلها وسُلمياتها ببعضها لتكوًن الرواية هيكلاً كاملاً في نهاية المطاف.

*وهي مزيج من الرواية الواقعية والتاريخية والرومانسية، التي أُنضجت على نار هادئة، وقودها الموهبة والفهم والصبر، وسعة الاطلاع والتمكن من الصنعة الإبداعية.

*والكاتب قادر على جمع أشتات متفرقات في بوتقة واحدة وقادر على صهرها وتشكيلها بشكلٍ ما، نطيقه ونستسيغه رغم حرارة الانصهار(حب، رفض، طبقية، عناد، استحواذ وتملك، أنانية، تناقض... صـ 218)، وكذلك صـ222(حب، حرب، مغامرة) هذه الرواية تصلح فيلمًا بجدارة، لأنها تحمل صراعات ودراما غزيرة، وهي تسير في عدة خطوط متشابكة ومتقاطعة(سياسية، اجتماعية، عاطفية، محلية وعالمية، ووطنية، وخاصة وعامة) صـ235

*صـ261-264 غالبًا ما يصل إلى آذاننا صوت عبدالوهاب وموسيقاه في الخلفية، وهي خلفية حالمة مؤنسة، بدأ بها الفصل، وأنهاه بها، فيما يشبه ظاهرة التدوير في الشعر العربي، وكما تدور بالأغنية اسطوانة الجرامافون، في صورة سمعية حسية رائعة.

لغة الرواية:

   يمتلك الكاتب لغة قوية فصيحة ورصينة، اتسمت بالجمال والشاعرية، مثلما نجد في كثير من الصور الجمالية الموظفة جيدًا في مواضع عدة من الرواية، على سبيل المثال في ًصـ 67 "ما أجهلك يا عارف يا ابن الشيخ قطب" فهنا تورية، ومقابلة في آن واحد(أجهلك، عارف، الشيخ)

وصـ68 "زغردت على رأسه أسراب من الطير، واستعرت جذوة آسرة، وهي تفتر شفتاها بابتسامة جذلى" وصـ69 "خيرها وافر، كل شيء عندها وافر، وصـ 142 جملة قصيرة ثرية ومبدعة مبنى ومعنى "غمغمت، تمتمت، ثم صمتت..."، وصـ 165 "يغرز عينيه في وجهها"، وصـ203 "والكلمات تصل إليه وهو قابع وراء شجرةٍ ضخمةٍ، يمتصها بأذنيه في نهم..." حيث الأذن تشرب وتأكل وتمتص، وصـ219 "وهو يشمل وجهها بعينيه، وكأنه يريد أن يحفظ تفاصيله"، وصـ274 "استقل القطار والسماء تقطر لهبًا، ولا تنفك صورة ضحى في أحضان غريمه تكيل له الطعنات، تعذبه، ويقينًا وهي وراء البحار تتعذب مثله"، وصـ 275 "للحروف رائحة وصوت وفم، وروح تجسدت أمامه وهو يقلب مخطوط "تغريبة الحضري" تحسس أوراقها القديمة، رائحتها نفاذة، وصوتها عالٍ، وروحها سرمديةً لا تموت. لا تموت"

*يمتلك الكاتب لغته باقتدار، ويحسن تطويعها ببراعة في تراكيب جديدة، مختلفة وبديعة ومقنعة، رغم تباعد أجزاء تشكيلها الجمالي، صـ267 "خفق القلب، ودمدم صوتٌ رغم خفوته:ضحى زوجتي..."

زمن الرواية:

   استمر من نهاية القرن الثامن عشر وحتى بدايات القرن العشرين الميلادي، وهي صفحات مهمة وصعبة من تاريخ مصر: نكبة عرابي، ثورة سعد غلول1919م، دستور1923م، مظاهرات الطلبة، نكبة فلسطين وتدنيس الأقصى بعصابات اليهود واعتداءاتهم، تشريد شعب فلسطين...


شخصيات الرواية:

  ازدحمت الرواية بالشخصيات حيث نصادف ما يقرب من خمسين شخصية، لكننا لا نستطيع أن نعيب هذه الكثرة بسبب إسهامها في صناعة الأحداث وتشابكها وخدمتها للحبكة والصراع.

المضمون:

   تغطي الرواية فترة من مسيرة كفاح المصريين ضد الإنجليز وأعوانهم في القصور، وتصور المفارقة بين ما يحدث في القصور وما يعانيه السواد الأعظم من الشعب المصري صـ145...

وفاة الزعيم سعد زغلول، المواقف الوطنية للضباط المصريين حراس السجون مع المعتقلين السياسيين.

مشاركة الأدباء في السياسة وعلاقتهم بالأحزاب، توفيق دياب، العقاد، طه حسين...

نجح الكاتب في تصوير أنواع الصراعات في الحرب والحياة والحب، وفي إبراز المتناقضات، وأنواع التضحيات، ومنها التضحية من أجل الحبيب (حياة ويوسف، صالح وضحى)، فنجد الرواية كوكتيل، وضفيرة من الصراعات الكبرى(الحرب العالمية) والمتوسطة(صراع الطبقات الثرية) والصغرى(حب صالح لرحمة، صديق لضحى، حياة ليوسف غنيم) صـ 169، وفي صـ211 قراءة واعية من الكاتب للتاريخ، الماضي والحاضر الممهد للمستقبل؛ فلا توجد صُدف، وإنما المقدمات تؤدي إلى نتائج.

وفي صـ266 مصر رُمانة الميزان، وقلب العالم العربي؛ إذا ضعفت سقط الجميع ممن حولها، كانت فلسطين مثالاً لأكبر عملية سطو مسلح في التاريخ، سرقة وطن وتشريد لأهله، ماذا نسمي ما يحدث الآن في العراق وسوريا وليبيا واليمن، وتقسيم السودان، والعرب الآن في أسوأ حالاتهم.

خاتمة الرواية:

إن الروح الصوفية بأريج عطر "قطب الجوهري" تتسلل في ثنايا الرواية من بدايتها حتى نهايتها، روح صوفية نقية بروحانية مزينة بفاتحة الكتاب

 ومسك الختام

"الحمدلله رب العالمين..."

 ونجوى العارفين؛

 فما أروعه من ختام للرواية!


         


                                      

                                     

google-playkhamsatmostaqltradent