recent
أخبار ساخنة

لماذا يدفع الناس 50 ألف جنيه لدخول مكان لا يراه سوى 100 شخص سنويًا؟

 لماذا يدفع الناس 50 ألف جنيه لدخول مكان لا يراه سوى 100 شخص سنويًا؟



كتبت - دكتورة ميرنا القاضي

عندما تدفع ٥٠ ألف جنيه لتذكرة معبد الأوزيريون، أعمق نقطة غامضة في أبيدوس، وأندر موقع يمكن دخوله في مصر كلها، فأنت لا تشتري "تذكرة"... بل تشتري وصولًا. وصولًا لمكان لا يدخل إليه سوى حفنة من الناس كل عام، ورؤية لا تُمنح إلا لمن يبحث عن المعرفة كما يبحث الآخرون عن الذهب.



هذا السعر ليس مبالغة… بل هو بوابة لعالم مغلق. إنها أقل من تكلفة رحلة استكشافية إلى القطب الجنوبي، أو غواصة في أعماق المحيط. إنها استثمار في رحلة إلى أعماق الزمن، إلى حيث وُلد أول سر من أسرار الخلق. هنا، تبدأ الرحلة الحقيقية، حيث تتحول التفاصيل من حجر ونقش إلى حكاية كونية، وتجربة تحوّلك من متفرج إلى صاحب امتياز استثنائي.


هنا… يبدأ الجزء الذي لا يشتريه المال عادةً، لكن هنا، في هذا المكان بالذات، يفتحه المال لك.


أسرار رسومات الأوزيريون: حينما تحوّلت الجدران إلى كتاب خلق الكون


في قلب أبيدوس، خلف معبد سيتي الأول مباشرة، يختبئ واحد من أعمق أسرار الديانة المصرية القديمة: الأوزيريون. ذلك البناء الغامض الذي يشبه معبدًا غارقًا في الزمن، والذي أراده المصري القديم أن يكون القبر الرمزي للإله أوزيريس ومسرحًا مقدسًا لأسطورة الخلق والبعث.



لكن السر الأكبر قد يكون في الزمن نفسه: فأسلوب بنائه الضخم الخالي من الزخارف يختلف كلية عن عصر سيتي الأول، مما أثار جدلاً أثرياً محتدماً: أهذا البناء من عصر الدولة الحديثة؟ أم أنه أقدم بكثير ربما يعود إلى فجر التاريخ المصري، مما يجعله لغزاً داخل لغز؟ إنه أغرب من كهوف لاسكو في فرنسا، وأعمق قدسية من ستونهنج في إنجلترا، وأكثر غموضاً من خطوط نازكا في بيرو... لأنه لا يروي تاريخ البشر فحسب، بل يروي تاريخ الآلهة ذاتها.


وعندما تنزل تلك السلالم، لا ينقطع صوت العالم فحسب، بل ينقطع الزمن. يلفك صمت مطبق، ويصبح الهواء باردا ورطبا تحمله رائحة الأرض العميقة، ويظهر الضوء الخافت منفتحا على منحوتات هي ليست مجرد زخارف. إنها نصوص عقائدية سرية كانت مخصصة للملك ولأعلى كهنة فقط تحمل فلسفة كاملة عن الموت والحياة والكون. يمكنك أن تسمع صوت المياه الجوفية المتساقطة بصمت في الزوايا المظلمة، كأنه دقات قلب الأرض نفسها تذكرك بأن عملية الخلق لم تتوقف أبدًا.



ربما وقف هنا كاهن أعظم في لحظة تشرف، أو تخفى ملك في زيارة سرية ليلاً ليستمد قوة الأسلاف. اليوم، هذه الجدران نفسها تنتظر أن تهمس بأسرارها إلى أذنك أنت. نفس الصمت الذي سمعه الفراعنة، سيملأ رأسك. نفس الأسئلة الكونية التي حيرتهم، ستواجهك.


فما هو سر تلك الرسومات؟ وما الذي يجعلها من أندر ما نُقش على جدران مصر؟


1. كتاب "البقرة السماوية"… النص الذي لا يُسمح بقراءته إلا للملوك


على جدران الأوزيريون توجد نسخة كاملة من أحد أخطر نصوص الديانة المصرية: كتاب البقرة السماوية.


هذا النص الأسطوري ليس حكاية، بل هو "البيان التأسيسي" للكون حسب المعتقد المصري:

·كيف خلق "رع" البشر.

·كيف تمرد البشر على إله الشمس.

·كيف قرر الإله معاقبتهم بإرسال الإلهة "حتحور" كأداة دمار.

·ثم القرار الحكيم برفع "نوت" – إلهة السماء – لتصبح بقرة كونية شامخة تحمل النجوم على بطنها والكون على ظهرها.



وجوده هنا يعلن أن الأوزيريون لم يكن مكانًا للزيارة العابرة؛ بل كان مدرسة أسرار كونية، لا يدخلها إلا من هو مستعد لتلقي معرفة تمسك بخلاص العالم.


2. رسومات البعث واتحاد الملك بأوزيريس


تُصوّر النقوش رحلة أوزيريس في عالم الموتى، لكن الجانب الأخطر هو أنها تشرح الاتحاد السرّي بين الملك الحي وأوزيريس الميت.


هذا الاتحاد هو سر الشرعية السياسية والدينية معاً:

·الملك الحي هو "حورس" المجسد على الأرض.

·وعند موته، يتحول ويَتحد مع "أوزيريس" في العالم الآخر.

·ثم يولد من جديد كحورس في دورة أبدية.


إذن، هذه الرسومات هي خريطة طريق عملية لخلود الروح، وخطوات محددة للتحول من الفناء إلى البقاء.



3. رموز المياه… الأوزيريون كـ "رحم الخلق الأول"


الأوزيريون مبني تحت مستوى الأرض، وتتجمّع المياه الجوفية حوله حتى اليوم. هذا ليس حادثاً، بل هو رمز مخلوق بقصد.


في العقيدة المصرية:

·الماء = نون.

·نون = محيط الفوضى الأولية الذي سبق الخلق.


وبهذا، يتحول المكان إلى "رحم كوني" يجتمع فيه الماء (الفوضى) مع الحجر (النظام) ليعيد تمثيل لحظة خلق الكون. النقوش هنا تُقرأ على هامش صوت الماء الهادئ، كأنها تهمس بسر الميلاد المستمر.


4. النقوش التي تكشف تحالف "رع" و"أوزيريس"


من أعظم الأسرار هنا هي النصوص التي تصف لقاءً ليلياً مقدساً بين إله الشمس وإله العالم السفلي.


ففي كل ليلة:

·رع (الشمس) يهبط إلى الأعماق.

·يلتقي بـ أوزيريس (الموت والبعث).

·يتحدان في كيان واحد قوي.

·لينبثق من هذا الاتحاد قوة الشمس الجديدة لليوم التالي.


هذا التحالف هو ضمانة استمرار الكون: الحياة والموت ليسا خصمين، بل شريكين في رقصة الوجود الأبدي.


5. رسومات بلا ألوان… الخطاب الموجه للآلهة


الغريب أن النقوش هنا بلا تلوين، محفورة بعمق وبخطوط ضخمة، ومرتفعة عن مستوى نظر الإنسان الطبيعي. هذا يطرح سؤالاً مصيرياً: هل صُممت هذه الجدران ليراها البشر أصلاً؟ أم هي سجل مقدس موجه للآلهة أنفسهم؟


هذا الطابع المعماري الفريد هو ما عزز نظريات أن المبنى أقدم بكثير من المعابد المحيطة به، وكأنه لغة معمارية من عصر مختلف تماماً.


6. رموز "الجسد السرّي لأوزيريس"


من أعقد الشفرات البصرية هنا هي الرموز المموهة التي تمثل:

·أجزاء الجسد الممزق لأوزيريس.

·النباتات التي تنمو منها (رمز البعث والتجدد).

·علامة "عنخ" الحياة المختفية بين الثنايا.

هذه ليست زخارف،بل كتابة سرية تخفي طقوس "تجميع الجسد" وهو أعظم أسرار الطقوس الأوزيرية.


7. السقف الفلكي: خريطة السماء المصرية


جزء من سقف الأوزيريون كان يحمل ذات يوم رموزاً فلكية نادرة:

·مسارات الكواكب والنجوم.

·الطريق الليلي لمركب رع.

·تصور المصريين لدرب التبانة والمجرات.


إنها ليست مقبرة تحت الأرض فحسب، بل مرصد كوني يسجل لحظة انفصال السماء عن الأرض في نص حجري.


لماذا هذه النقوش هي الأعظم؟


لأنها ليست فنًا، بل هي فلسفة مكتملة الأركان. إنها وثيقة جامعة بين علم الكونيات، اللاهوت، السياسة المقدسة، علم الفلك، وما بعد الطبيعة. ولهذا، فإن دفع تذكرة الدخول ليس ثمناً للدقائق التي تقضيها هناك، بل هو إسهام في حفظ هذه الرسالة الكونية، واشتراك في سرّ حُفظ آلاف السنين.


إذا كنت تبحث عن مجرد صورة تنشرها، فهذا المكان ليس لك. ولكن إذا كنت من الذين يتساءلون عن أصل الحياة، ومعنى الموت، والسر الخفي الذي يربط الكون كله... فإن سلالم الأوزيريون تقود إلى إجابات محفورة في حجر.



التفاصيل التقنية والواقعية للتجربة:

· الوصول والدخول: يقع الأوزيريون خلف معبد سيتي الأول مباشرة في أبيدوس، محافظة سوهاج. الدخول منفصل ومرتبط بتصريح خاص وتذكرة مرتفعة الثمن للغاية، تتحكم فيها وزارة السياحة والآثار لدواعي أمنية وصونية.

· البناء: هيكل ضخم من الحجر الجيري والجرانيت، يشبه تابوتًا أو معبدًا منحوتًا في حفرة عميقة. يتكون من قاعة مركزية ضخمة (حوالي 30 متر طولاً، 20 متر عرضاً) تحيط بها 17 غرفة جانبية صغيرة. الأعمدة الجرانيتية الضخمة تزن كل منها عشرات الأطنان.



· التجربة الحسية:

· الدرج: تنزل إلى عمق يقارب 10-12 مترًا تحت سطح الأرض الحالي عبر سلم حجري ضيق.

· درجة الحرارة: تنخفض درجة الحرارة فجأة بمجرد النزول، وتظل ثابتة على مدار العام عند حوالي 18-20 درجة مئوية، مع رطوبة عالية تشعر بها في الهواء وعلى الجدران.

· الرائحة: رائحة ترابية عميقة ممزوجة برائحة الحجر الرطب والأملاح المعدنية.

· الصوت: صمت شبه كامل، ينقطع فقط بصدى خطواتك، وأحيانًا بقطرات الماء من السقف أو المياه الجوفية.

· الإضاءة: إضاءة صناعية خافتة موجهة بعناية للحفاظ على النقوش، مما يخلق ظلالاً متحركة تعطي النقوش حياة خاصة.

· مستوى الماء: غالبًا ما يكون هناك بركة ماء دائمة في أرضية القاعة المركزية تتفاوت مساحتها حسب الفصل والمستوى العام للمياه الجوفية.



· الجدل الأثري: الاختلافات الأسلوبية (كتل الحجر الضخمة غير المزخرفة، نقوش بارزة وليست غائرة، غياب الألوان) جعلت علماء مثل فلندرز بيتري ومارجريت موراي يؤيدون نظرية أنه قد يكون أقدم بكثير، ربما من عصر الأسرة الأولى أو حتى ما قبل الأسرات. بينما يرى آخرون أنه بناء من عصر سيتي الأول لكنه يحاكي طرازًا قديمًا متعمدًا.

· الحالة: الموقع محفوظ بشكل جيد structurally، لكن النقوش تحتاج إلى عناية من تأثير الرطوبة. الدخول المحدود هو جزء من إستراتيجية الحفظ.


عندما تخرج من الظلام إلى نور النهار في أبيدوس، لن تخرج كالذي دخل.

 ستحمل في داخلك صدى أسرار الخلق والبعث.

 لقد اشتريت وصولاً، نعم. ولكنك في الحقيقة اشتريت تحولاً. ستخرج وأنت تحمل في صدرك شيئًا من 'نون' ذلك المحيط البدائي وشيئًا من صلب 'رع' وأزلية 'أوزيريس'. 

لن تنظر إلى النجم في الليل، أو إلى النبتة الخضراء، أو إلى دورة الشمس كما كنت من قبل.


يقول أحدهم بعد خروجه: "لأول مرة في حياتي فهمت كلمة 'قداسة' ليس كلفظ، بل كطعم في الفم ووزن في القلب."


لقد أصبحت، للحظة خالدة، من حراس السر. وهذه هي أغلى مقتنى يمكنك الخروج به من أي رحلة في العالم.

google-playkhamsatmostaqltradentX