بعد رحيل السند … مأساة "المعاق" في غياب حنان الإخوة والمسؤولية
كتبت - منى منصور السيد
تظل الأم والأب، مهما تقدم بهما العمر، هما الوتر الحساس في حياة الإنسان، ومصدر الأمان الذي لا ينضب. غير أن هذا الدور يتضاعف ليصبح عمود الخيمة الوحيد في حياة الشخص المعاق، الذي قد يفتقر إلى القدرة الكاملة على إدارة شؤونه الذاتية مهما بلغ سنه. وعندما يغيب هذا السند برحيل الوالدين، يبدأ فصل جديد من المعاناة، يضاعف قسوته غياب الدفء الأخوي وتخلي الإخوة الأصحاء عن مسؤولياتهم.
إن رحيل الوالدين فاجعة تترك ندوبًا عميقة من الحزن والصدمة، لكن بالنسبة للشخص المعاق فإن هذا الفقد يكون فقدًا مزدوجًا؛ فهو يفقد علاقة فريدة تجمع بين الحب غير المشروط والرعاية المتفانية وفي الوقت نفسه ينهار النظام اليومي الذي بناه الوالدان بعناية فائقة. يجد الشخص المعاق نفسه فجأة في مهب عاصفة من التغيير والضياع، وقد فقد ليس فقط الحنان، بل منظومة الأمان كاملة.
وعلى الصعيد القانوني والمالي، تكشف وفاة الوالدين عن ملفات معقدة تزيد من أزمته. ففي غياب تخطيط مسبق، تبرز مسألة الوصاية القانونية، حيث يصبح من الضروري تعيين وصي شرعي — أحد الإخوة أو جهة مختصة — لإدارة شؤونه الصحية والمالية، خصوصًا في حالات الإعاقة الذهنية أو العجز التام. وتتضاعف التحديات عند توزيع الميراث، إذ يختلط في كثير من الأحيان بين حقه المالي الضروري لاستمرار رعايته، وبين التركة التي تُقسّم بين الورثة. وقد تؤدي النزاعات حول التصفية إلى حرمانه من موارد مالية تضمن له الرعاية، في ظل ارتفاع تكلفة العلاج والرعاية المتخصصة، وغياب وجود صندوق خاص أو وصية واضحة تحفظ حقوقه.
في غياب الوالدين، يصبح الإخوة والأخوات الأصحاء هم السند الطبيعي وهنا تكمن المأساة الأكبر. فبدلًا من أن يتحولوا إلى الجدار الجديد الذي يحمي أخاهم أو أختهم المعاقة، يصبح بعضهم مصدرًا للخذلان. يُفترض بالأخ أن يكون سندًا يعوّض بعضًا من حنان الوالدين، لكن الواقع يكشف أحيانًا عن برود عاطفي يتعامل فيه البعض مع رعاية أخيهم بوصفها عبئًا ثقيلًا أو واجبًا يُؤدّى بلا رغبة بل قد يصل الأمر إلى انقطاع كامل عن السؤال والدعم. وقد يتهرب بعضهم من المسؤولية بحجة الانشغال بالحياة لتتقاذفهم الخلافات حول من يتحمل العبء، وفي النهاية يضيع الشخص المعاق بين الجميع، وربما يُنقل إلى دور رعاية ليست بدافع تحسين وضعه، بل نتيجة هروب من الواجب الأخوي والإنساني.
إن الشخص المعاق ليس مجرد "حالة" طبية، بل إنسان يشعر ويحتاج إلى الأمان والاحتواء. ومهما بلغ عمره، يبقى محتاجًا إلى لمسة حنان من أخ أو أخت تذكره بأن العائلة ما زالت موجودة. إن رعايته بعد رحيل الوالدين ليست خدمة، بل عهد إنساني وشرعي. وهي امتداد لبر الوالدين واختبار حقيقي لصفاء النفس وصدق الضمير.
فإما أن نكون خير خلف لخير سلف، أو نترك روحًا بريئة تواجه مأساة صامتة بلا سند. إن بناء جسر من المحبة والمسؤولية المشتركة هو السبيل لضمان أن يعيش الشخص المعاق بكرامة، وأن يجد في قلوب إخوته ما افتقده برحيل والديه.
