تحولات المجتمع وعندما يتبدل ميزان القيمة والأخلاق
بقلم : محمود فوزي
لقد بات التغيّر سمةً بارزة لعصرنا الحديث، ليس فقط في مجالات التكنولوجيا أو أنماط الحياة بل في جذورنا القيمية والأخلاقية التي تشكّل نسيج المجتمع.
إن ما نعيشه اليوم يشبه انقلابًا في الموازين حيث أصبح الزيف واقعًا مقبولًا، وتآكلت المبادئ أمام بريق المصلحة والنفوذ.
هذا المقال محاولة لرصد وتحليل هذه التحولات التي ألقت بظلالها الثقيلة على مجتمعنا.
ألقاب تُشترى ومناصب تُستعار: الزيف في واجهة المجتمع
من أبرز مظاهر هذا التحوّل تضخّم ظاهرة تزييف الألقاب والمناصب.
فالألقاب التي كانت تُكتسب بالعلم والجهد والخبرة، أصبحت تُباع وتُشترى لتزيين واجهات لا تحمل في جوهرها أي استحقاق حقيقي.
نشاهد اليوم كيف يتصدر المشهد من يحملون لقب “دكتور” أو “مستشار” بشهادات وهمية
أو بدورات قصيرة، وكيف تُمنح صفة “إعلامية” أو “سيدة مجتمع” لمن يجيد الظهور والتمثيل حتى وإن افتقروا للمحتوى والمسؤولية.
لقد رأينا سمسارًا يتحول إلى "مهندس" وصاحب "مجموعة"، مستغلًا رأس المال والنفوذ بدلاً من الكفاءة والجدارة، فيتربع على عرش النفوذ وربما يصل إلى قبة البرلمان.
هكذا، تضعف الثقة في المؤسسات والألقاب العلمية والمهنية، ويصبح المظهر هو المعيار، لا الجوهر ولا الكفاءة.
هيمنة المال والنفوذ: المصلحة تحكم العلاقات
في ظل هذا التغيّر، طغت قيمة المال والنفوذ على القيم والمبادئ الراسخة.
لم يعد الاستغلال أمرًا مرفوضًا بالضرورة، بل صار يُنظر إليه على أنه شطارة ومهارة في “اللعبة الجديدة” للحياة.
تحوّلت العلاقات الاجتماعية من روابط قائمة على الصدق والودّ المتبادل إلى علاقات مصلحية بحتة، يدور محورها حول سؤال واحد:
“ماذا سأستفيد؟”
حتى في نطاق الأسرة والأصدقاء، تسلّل هذا المنطق النفعي ليُضعف الروابط الإنسانية.
أما في المشهد الاجتماعي العام، فيظهر التفاخر المصطنع والتصوير المبالغ فيه في المناسبات الاجتماعية كرمز للوجاهة.
أصبحت الصور والفيديوهات وسيلة لإعلان الانتماء إلى “طبقة المجتمع الراقي”، بينما يخفي هذا البريق الزائف هشاشةً في القيم والمضمون.
تراجع القيم والمبادئ: صعود الفئة المنافقة والضالة
يزداد خطر التحوّل القيمي حين تتضخم الفئة المنافقة والضالة في المجتمع؛ تلك التي تتقن فنّ التلون وتتبع مصالحها بلا وازع من خلق أو ضمير.
هذه الفئة تستخدم المظاهر والألقاب المزيفة للتمويه والتمكين.
ومع صعودها، يغيب النموذج والقدوة الحقيقية فينشأ جيل يرى في الغشّ والتحايل على القيم طريقًا للنجاح.
تتلاشى الحقيقة الجوهرية التي تقول إن قيمة الإنسان في سلوكه وأخلاقه، لا في ألقابه أو أرصدته.
نحو استعادة الميزان: التحدي والمستقبل
إن معالجة هذا الخلل العميق لا تكون بإنكار الواقع، بل بالاعتراف به ومواجهته بشجاعة.
ويستلزم ذلك جهدًا مجتمعيًا شاملًا يرتكز على:
1. التربية والتنشئة:
إعادة غرس القيم الأصيلة كالأمانة والإتقان والجدارة في نفوس الأجيال الجديدة، وتقديم القدوة الصادقة التي تُمثل العلم والعمل المخلص.
2. تفعيل دور القانون والرقابة:
تشديد الرقابة على منح الشهادات والألقاب وتطبيق القانون بصرامة على مزيفي الحقائق ومستغلي النفوذ، لردع من يعبثون بالمنظومة القيمية.
3. إعلاء قيمة العمل والجهد:
إعادة الاعتبار للكفاءة الحقيقية والعمل الدؤوب كمقياس أساسٍ للنجاح والتقدير، بعيدًا عن بريق المال والمظاهر الزائلة.
إن المجتمع الذي تتآكل فيه القيم هو مجتمع مهدد في جوهر وجوده.
ولا سبيل لإنقاذه سوى العودة إلى المبادئ الأصيلة، والتمسك بالجدارة والاستحقاق ومقاومة هذا المدّ الزائف.
فقط عندها يمكن أن يستعيد المجتمع توازنه الأخلاقي ويعود ميزان القيمة إلى نصابه الصحيح.
