قدماء المصريين أول من آمن بقيمة الوقت واخترعوا الساعات
كتب - د. عبد الرحيم ريحان
منذ آلاف السنين وقبل أن تلمس أقدام الفلاسفة الإغريق أرض العلم، كان المصري القديم يحدّق في السماء لا من باب التأمل فقط بل بدافع المعرفة والتنظيم والتقويم.
لقد كان الفلك عند قدماء المصريين علمًا متقدمًا لا ينفصل عن الحياة اليومية ولا عن الدين أو الزراعة أو المعمار لقد نظروا إلى النجوم لا كزينة في السماء بل كساعة كونية تضبط إيقاع حياتهم وإذا كان العلم مرآة لحضارة ما فإن إسهامات القدماء في الفلك تُعدّ من العلامات البارزة على عبقريتهم الحضارية.
هكذا تحدّث الدكتور قاسم زكى أستاذ الوراثة المتفرغ بكلية الزراعة بجامعة المنيا وعضو اتحاد كتاب مصر إلى دايلى برس مصر موضحًا أن نهر النيل لم يكن مجرد مصدر ماء بل كان مركزًا للكون المصري ومع مراقبة دقيقة لتغيرات النهر لاحظ المصريون القدماء أن فيضان النيل يرتبط بظهور نجم معين في الأفق الشرقي قبل شروق الشمس مباشرة هو "سيريوس" أو "سوبديت" كما في الهيروغليفية وقد لاحظوا أن طلوعه الاحتراقي يسبق الفيضان بفترة وجيزة ومن هذه الملاحظة الذكية بدأ المصري القديم في ربط الأحداث الأرضية بالحركات السماوية.
لقد شكّلت هذه العلاقة بين “سيريوس” وفيضان النيل الأساس لأول تقويم شمسي في التاريخ إذ قسّموا السنة إلى 365 يومًا تتوزع على 12 شهرًا، كل منها 30 يومًا وأضيفت 5 أيام نسئ في نهاية السنة إنها ليست مجرد عبقرية فلكية بل عبقرية تنظيمية مدهشة.
قيمة الوقت
يشير الدكتور قاسم زكى إلى رصد المصريون حركة الشمس والنجوم لتقسيم الزمن وقُسِّموا اليوم إلى فترتين: نهار وليل، ثم تطوّرت الفكرة إلى تقسيم كل فترة إلى 12 ساعة فيكون اليوم الكامل 24 ساعة وهو ما لا يزال معمولًا به حتى اليوم.
ولأجل هذا التقسيم اخترع المصريون أدوات لقياس الوقت
الساعة الشمسية (المزولة): تعتمد على ظل القضيب لضبط ساعات النهار.
الساعة المائية (كليبسيدرا): تقيس الوقت ليلًا أو في غياب الشمس عبر تدفق المياه بمعدل ثابت.
ساعات النجوم: استخدموا مجموعة من 36 نجمًا (تُعرف بـ “النجوم العشرينية”) يظهر منها نجم جديد كل 10 أيام لقياس الوقت ليلًا.
ولم تكن المعابد المصرية مجرد مبانٍ ضخمة بل تحف فلكية في تصميمها مثل الكرنك ودندرة وأبو سمبل التى وُجهت بدقة تتماشى مع الشروق والانقلاب الشمسي أو ظهور نجوم معينة.
وأشهر مثال على ذلك هو معبد أبو سمبل حيث تتعامد أشعة الشمس مرتين سنويًا (22 فبراير و22 أكتوبر) على قدس الأقداس في ظاهرة ما تزال تُدهش العالم حتى اليوم وهذا الحدث ليس محض مصادفة بل نتيجة لحسابات فلكية دقيقة تنم عن فهم متقدم لحركة الشمس وزاوية ميل الأرض.
عبقرية سقف معبد دندرة
ينوه الدكتور قاسم زكى إلى خريطة النجوم الموجودة على سقف معبد دندرة والتي تُعدّ أقدم خريطة فلكية كاملة معروفة في العالم تحتوي على الأبراج السماوية مثل الجدي، الأسد، العقرب…) كما تُظهر مسارات الكواكب وخط الاستواء السماوي.
كما احتوت المقابر الملكية وخاصة في وادي الملوك على ساعات نجمية وكتب السماء مثل كتاب الليل وكتاب النهار وهي نصوص فلكية تسرد رحلات الشمس عبر العالم السفلي كل ليلة ما يعكس تصورهم الكوني العميق ودقة ملاحظاتهم الفلكية.
وكان للفلك بعد ديني عميق في العقيدة المصرية القديمة فقد اعتبروا الشمس (رع) إلهًا ورحلتها اليومية من الشرق إلى الغرب رمزًا للميلاد والموت والبعث كما اعتبروا أن النجوم تمثّل أرواح الموتى خاصة ملوكهم أما نجم “سيريوس” فقد ارتبط بالإلهة إيزيس وأصبح ظهوره علامة مقدسة لبدء الحياة المتجددة.
حتى في دفنهم اتبع المصريون إحداثيات فلكية دقيقة فكان رأس الميت يوجّه غربًا باعتبارها جهة الغروب والموت وأُقيمت أهراماتهم بزوايا متطابقة مع الاتجاهات الجغرافية الأربعة ومحاور فلكية دقيقة.
وانتقلت المعارف الفلكية المصرية إلى الحضارات الإغريقية والرومانية عبر الإسكندرية التي كانت مركزًا عالميًا للعلم خاصة بعد تأسيس مكتبتها الشهيرة. وقد استفاد فلكيون مثل “بطليموس” و”هيبارخوس” من المعطيات المصرية في تطوير نظرياتهم كما تأثرت حضارات بابل والهند والصين لاحقًا ببعض عناصر الرصد النجمي والمفاهيم الزمنية المصرية.
ولفت الدكتور قاسم زكى إلى تعامل المصري القديم مع السماء كما يتعامل العلماء المعاصرون مع المعادلات رصد وحساب ونظرية ثم تطبيق ولم يكن علمهم ضربًا من السحر بل كان قائمًا على الملاحظة الدقيقة والتسجيل المنتظم والتجريب عبر الزمن ولذا تركوا إرثًا فلكيًا تجاوز حدود الزمان والمكان.

