هل بُني الهرم فقط من أجل أن يدفن فيه شخص؟ تعرف على فلسفة العمارة المصرية
كتب - د . عبد الرحيم ريحان
يتساءل الكثيرون هل هذا البناء الضخم العجيبة الوحيدة الباقية من عجائب الدنيا السبع بُني فقط ليدفن فيه شخص؟
يجيب على هذا التساؤل الدكتور قاسم زكى أستاذ الوراثة المتفرغ بكلية الزراعة بجامعة المنيا وعضو اتحاد كتاب مصر موضحًا أن الأهرامات هي التجسيد الأبرز لعبقرية العمران المصري فهرم خوفو مثلًا لا يزال واحدًا من عجائب الدنيا السبع القديمة الباقية فلم يكن الهرم مجرد قبر ملكي بل رمزًا للخلود ومرآة لفكر كوني عميق فقد صُمم ليكون منسجمًا مع الاتجاهات الجغرافية الأربعة ويمتد بارتفاعه نحو السماء كما أن التصميم الداخلي للهرم يُظهر معرفة هندسية دقيقة سواءً في توزيع الأحمال أو في تنظيم التهوية والإنارة الطبيعية.
ويعد العمران عند قدماء المصريين تجسيدًا لعبقريتهم المتعددة الأبعاد حيث التقت الفلسفة بالدين والهندسة بالفن والتخطيط بالخلود إن ما شيده المصري القديم لم يكن مجرد مبانٍ تؤوي الأحياء أو تحفظ الأموات بل كان منظومة حضارية متكاملة تعكس رؤيته للكون والحياة والآخرة.
وأن عبقرية العمران عند قدماء المصريين لم تكن وليدة الصدفة بل حصيلة رؤى فلسفية ودينية وعلمية متكاملة إنها حضارة خاطبت الأبد بالحجر وخلّدت الإنسان في المعمار فصار البناء رسالة والحجارة لغة والمعابد كتابًا مفتوحًا يقرأه الزمن جيلاً بعد جيل.
كانت العقيدة الدينية هي المحرك الأساسي لفلسفة العمران لدى المصريين القدماء.
فالمعبد لم يكن فقط مكانًا للعبادة بل تجسيدًا للأرض المقدسة ومسرحًا لتجليات الآلهة، وأداة لضبط العلاقة بين الإنسان والكون لذلك حرص المعماري المصري على أن يكون المعبد مهيبًا في مدخله غامضًا في أعماقه غارقًا في الظلال والرموز.
يبدأ الزائر بدخول صرح ضخم ثم يتدرج عبر ممرات وأعمدة حتى يصل إلى قدس الأقداس تمامًا كما تتدرج الروح في رحلتها نحو النور الإلهي.
لم تكن المعابد مجرد صروح معمارية بل منظومات كونية مصغرة فقد راعى البناؤون اتجاهات الكواكب وحركات الشمس والقمر بحيث تتعامد أشعة الشمس على التماثيل المقدسة في مواعيد سنوية محددة كما في معجزة معبد أبو سمبل حيث تتسلل أشعة الفجر مقترنة وموعد الاحتفال بأعياد المعبود «حورس» وانتصار قوى النظام “ماعت” على براثن الفوضى «إسفت» طبقًا للمعتقدات المصرية القديمة لتضيء تمثال رمسيس في قدس الأقداس.
وأضاف الدكتور قاسم زكى بأن المدن المصرية القديمة لم تكن عشوائية أو وليدة الحاجة الآنية بل خضعت لتخطيط مسبق وتنظيم صارم فالعاصمة "أخيتاتون" التي أنشأها الملك أخناتون كانت مثالًا للمدينة المصممة على أسس فلسفية ودينية إذ بُنيت من الصفر على أرض جديدة وحدد فيها أماكن المعابد والمساكن والقصور بدقة كما تدل المكتشفات الأثرية في مدينة عمال وادي الملوك المعروفة باسم دير المدينة على وجود تنظيم دقيق لأماكن السكن والورش والطرق فضلًا عن شبكات توزيع المياه والصرف مما يعكس وعيًا حضريًا متقدمًا.
أما في المناطق الزراعية فقد امتد التخطيط العمراني إلى تنظيم القرى على ضفاف النيل وبناء مخازن الحبوب وصوامعها بطرق تضمن حفظها لسنوات طويلة خاصة في أوقات الفيضان أو المجاعة.
استفاد المصري القديم من تنوع الخامات المتاحة له فوظف الطين لبناء البيوت والمخازن والحجر الجيري والرملي في المعابد والمقابر والجرانيت في التماثيل والعناصر المعمارية الكبرى لكنه لم يكن مجرد مستغل للخامة بل كان فنانًا يحاورها ويصقلها ويطوعها لأهدافه الدينية والجمالية. يكفي أن نعلم أن بعض الأعمدة والتيجان في المعابد استُخرجت من صخور الجرانيت الصلب ونُحتت بدقة متناهية دون وجود آلات حديثة.
لقد أتقن المصريون أيضًا تقنيات نقل الكتل الحجرية الضخمة وابتكروا أنظمة للرفع والسحب والتثبيت باستخدام أدوات بدائية لكنها فعالة والدليل على ذلك هو الأهرامات التي لا تزال تُدهش العالم بارتفاعاتها الشاهقة وزواياها الدقيقة.
ونوه الدكتور قاسم زكى إلى الجانب الجمالي والإبداعى في العمارة المصرية القديمة في زخرفة جدران المعابد والمقابر بالمناظر والنقوش وتحوّلت الأعمدة إلى أعمال فنية مستوحاة من اللوتس والبردي بينما رُسمت الأسقف بنجوم تمثل السماء ونُحتت الجدران بصلوات وأدعية ونصوص جنائزية تعكس تصورهم للحياة بعد الموت.
كما أدخل المصريون تقنيات الظلال والإضاءة في المعمار ليخلقوا من الأبنية تجربة شعورية وروحية يشعر بها الزائر عند انتقاله من الفناء المفتوح إلى قاعات الأعمدة ثم إلى قدس الأقداس.
ولم تتوقف عبقرية العمران المصري عند الدولة القديمة أو الوسطى بل استمرت حتى العصر البطلمي والروماني حيث احتفظ المصريون بخصوصيتهم المعمارية ودمجوا بين الأثر المصرى والتأثيرات الإغريقية والرومانية في المعابد مثل معبد فيلة وإدفو ودندرة مما يدل على قدرة هذا الشعب على التكيف دون التفريط في هويته.

