اقرأ التفاصيل
recent
أخبار عاجلة

الكاتبة منال خليل تكتب - النّاجُونَ لا يَطرُقونَ البابَ ذاتَهُ مَرّتَينِ، حتى وإن ظلّ الحنينُ واقفًا خلفه

 النّاجُونَ لا يَطرُقونَ البابَ ذاتَهُ مَرّتَينِ حتى وإن ظلّ الحنينُ واقفًا خلفه



بقلم : الكاتبة منال خليل 

- كان المساء خريفيًّا عادياً

السماء تتشح بغيومٍ شاحبة كسوله

يسقط منها قطرات مطر خفيفة، كأنها تتردّد في البكاء.


- على رصيف نصف مبلل بمطر خجول تعكسه أضواء برتقالية خافتة من مصابيح طريق قصير والريح تنفث برودتها كأنها تهمس لقلوبٍ مثقلة بشيءٍ

 لا بوح فيه .


- وقفت " علياء " هناك دون ترتيب مسبق، أمام واجهة زجاجية لمقهى قديم

وكأنها جاءت لتنتظر شيئًا، أو أحدًا دون موعد.

تحت مظلّة خشبية صغيرة أمام واجهة زجاجية لمقهى قديم في شارع جانبي من وسط المدينة، ذاك المقهى الذي اعتادا الجلوس فيه كل خميس قبيل الغروب، ذلك المقهى الذي كانا يهربان إليه من صخب العالم ، يضحكان، يتبادلان الكتب، ويلوّنان الوقت والحياة بعبارات تشبه الوعود.

جدران المقهى يبدو كأنه لا يزال يحفظ الحنين.


- كانت "علياء"  قد تجاوزت الأربعين بقليل،تبدو وكأنها امرأة تعافت ،لكن لم تنسَ.

 ترتدي معطف بلون العقيق الغامق وشعرها الأشقر كقرص الشمس ينسدل على كتفيها الصغيرين ،تحمل كتابًا بيد وذاكرة مثقلة بالأخرى .


أما هو " ياسين الأشقر " فكان جالسًا خلف الزجاج، في الزاوية ذاتها التي شهدت بدايات قصتهما الموؤدة.

 يبدو انه تخطى اعوامه الخمسين بعشرة أخرى،  معطفه الرمادي مفتوح وكأن صدره ما زال يبحث عن دفء

 هواء ،عينيه الغائرتين تحدّقان في الفراغ، وكأن شيئًا ما يناديه من الداخل

يبدو عليه إرهاق ما، أو ربما الخذلان من عمرٍ استُنزف في محاولات غير مُجدية للهرب من نفسه.


لم يكن رآها بعد ، لكن علياء قد لاحظته فورًا، بعينيها اللتين اعتادتا تفاصيله

حتى وهو شاحب، حتى وهو بعيد.


- بين بخار ندى ارتاح لوجوده على النافذة، وعبق رائحة القهوة الثقيلة

تداخل وجهه مع ماضيهما.

هو انتبه توقّف عن تقليب صفحات الجريدة التي يبدو انه لم يكن يقرأها أصلًا

نظر نحو الزجاج،ورآها.


رفعت علياء رأسها قليلاً تجاه ياسين

لم تلوّح ، لم تبتسم ، لم  تهمس باسمه

لكن نظرتها اصطدمت بعينيه 

وتوقف الوقت.


لم ينطق أحدهما حرفًا

هو لم يتحرّك، فقط اتّسعت حدقتاه

كأن العمر كله خرج من عينيه في لحظة واحدة.

نظرت إليه،كما ينظر من وجد ضالّته متأخرًا جدًا.

نظرتها لم تكن حنينًا، بل سلام متأخر

 لما لم يكتمل.

في تلك اللحظة، لم يكن هناك مقهى ولا شارع، ولا زمن كان  هناك فقط: نظرتان متقابلتان تحملان ما لا تحتمله الصفحات والكلمات.

 لم يتحرك

لكن شيئًا في ملامحه ارتعش

كأن سنوات العمر اندفعت في عينيه دفعة واحدة.

كل “لو” وكل “لماذا” وكل “ربما”

اختزلتها نظرته.


أراد أن ينهض

أن يقول: "اشتقتُ إليك"

أن يعتذر

أن يشرح

أن يعود.

لكن فمه بقى صامتًا

فقد سبقه قلبه إلى عينَيه، وقالتا كل شيء:


"أنا نادم ، أنا ما زلت تائهًا فيك ، و لم أُحب سواك ، الكل هزل ووحدك الحقيقة"

أما علياء، فلم تتحرك

ولم تُظهِر قسوة

بل اكتفت بنظرة ثابتة، صافية،

كأنها تُسلّمه آخر رسالة في صندوق قديم من الذكريات:


"كنتُ أحبك ، كنتُ أراك وطناً ، لكني نجوت"

خفضت عينيها ببطء وأدارت ظهرها.

ومشت بخطى هادئة، متزنة، كأنها أخيرًا أغلقت كتابًا لم يُكتب له أن يُنشر

لكنها كتبته كاملاً في قلبها

وتعهّدت أن تتركه في تلك اللحظة، دون إعادة قراءته مرة أخرى .


- كان الهواء يحمل معه رائحة خريف وأثر امرأة مرّت بالحياة ذات حب ، ذات ألم وخيبة، ولكتها لم تَعد كما كانت.


- داخل المقهى، بقي هو جالسًا

يده ترتجف، عيونه تترنّح

لا أحد يلاحظ انهياره الصامت

سوى كوب القهوة الذي لم يُمَس

وبرودة الكرسي وقلبه الذي كان دافئًا ذات يومٍ بوجودها.


- في الخارج

توقفت علياء لحظة قبل أن تختفي عند الزاوية، تنفست بعمق ورفعت ياقة المعطف على عنقها المرتعش.

المطر بدأ يشتد ،لكنها لم تحاول أن تفتح مظلّتها ،ربما لأنها أرادت للمطر أن يمحو ما تبقّى من ألمٍ عالق على وجه روحها.

 حين يخونك الحرف، وتضيع اللغة

يبقى في العينين وطنٌ من شعور، لا يحتاج إلى ترجمة.

قد تبتسم الشفاه،لكن العيون تقول:

 "أنا موجوعة"

وقد يلوّح أحدهم مودعًا بكلمات خفيفة أو قليلة،لكن نظرته قد تُدمي أكثر من رحيلِه.

في صمت النظرات دائما،ما كُتبَت روايات لم تُطبع،وامتلأت دفاتر القلب بشخص

قال كل شيء دون أن ينطق حرفًا

فقد قالت العيون كل شيء دون كلمات 

ودون وداع رسمي.

رحل ياسين من ذاكرتها... إلى الأبد.

google-playkhamsatmostaqltradent