موكب الحجيج رسالة حضارية من أرض مصر
كتب د. عبد الرحيم ريحان
تمتلك مصر مخزون حضارى كبير مرتبط برحلات الحج أصبحت جزء لا يتجزأ من الهوية والشخصية المصرية عبر العصور
الحج إلى أبيدوس
عرفت مصر الحج منذ خمسة آلاف عام إلى أبيدوس "بمحافظة سوهاج حاليًا" ورحلات الحج المسيحى إلى جبل طور سيناء " منطقة سانت كاترين حاليًا" منذ القرن الرابع الميلادى ومرور الحجاج المسلمين من المغرب العربى وإفريقيا عبر طريق الحج البرى الشهير بوسط سيناء وعبر صحراء مصر الجنوبية الشرقية عن طريق قوص- عيذاب وطريق الحج البحرى عبر خليج السويس منذ عام 1885م
وتوافد الحجاج فى مصر القديمة على أبيدوس للاعتقاد بأن رأس الإله " أوزير" دفُنت هناك وفي عصر الدولة الوسطي شاع الاعتقاد بأن جسد "أوزير" كله يستقر في واحدةٍ من أقدم المقابر في أبيدوس وهي مقبرة الملك "جر" أحد ملوك الأسرة الأولي ومنها نشأت طقوس الحج إلى مدينة أبيدوس بملابس بيضاء عبارة عن إزار أبيض قصير يلبس حتى الكتف وكان اللون الأبيض يدل على التطهر والورع والنقاء، حيث إن كلمة "حج" في اللغة المصرية القديمة تعني أبيض أو ناصع وكان للحج ميعاد ثابت ومحدد وهو اليوم الثامن من الشهر الأول من فصل الفيضان حتى اليوم السادس والعشرين من نفس الشهر.
واعتقد المصري القديم أن أبيدوس هي بيت "الكا" أي الجسد وبيت "البا" بمعنى الروح الخاص بأوزير، وقد حرص على زيارة الـ"كا- با"، الخاصة بأوزير أثناء حياته في رحلات يستخدم فيها المراكب وقد صورت نقوش ونصوص مقابر الدولة القديمة بسقارة منظر الحج كما علي جدران مقبرة "سن نفر" وكان عمدة مدينة طيبة فى عهد الملك أمنحتب الثانى الأسرة الثامنة عشر من الدولة الحديثة وبها نقش يصور رحلة الحج التى قام بها "س نفر" إلى إبيدوس.
"بركة الحاج"
موقع بالقاهرة الكبرى حاليًا كانت ملتقى الحجاج المسلمون من إفريقيا لبدء الرحلة المقدسة إلى مكة المكرمة عبر سيناء يقضى بها الحجاج يومين أو ثلاثة قبل بدء الرحلة يتذودون بكل احتياجاتهم ثم ينطلقوا إلى عجرود قرب السويس ويستكمل الحجاج طريقهم عبر سيناء وأول محطة بها وادى مبعوق حيث ذكر وجود ماء عذب طيب فى أحساء ومنها إلى نخل بوسط سيناء وفى نخل أنشأ السلطان الغورى خان وقد قام بتنفيذ ذلك خاير بك المعمار أحد المقدمين فى عام (915هـ / 1509م) ومنها إلى دبة البغلة قرب النقب ويوجد بها علامة هامة فى طريق الحج وهو نقس الغورى الذى مهد وأصلح طريق الحج إلى مكة المكرمة ومنها إلى سطح العقبة إلى قلعة العقبة ثم الأراضى الحجازية
الحج البحرى
يعتبر عام 1885م نقطة فارقة فى طريق الحاج حين تحول من الطريق البرى إلى البحرى فأصبح الحاج المسلم يشترك مع الحاج المسيحى فى جزء من الطريق حيث كان يأتى الحاج المسيحى من أوروبا عبر الإسكندرية مبحرًا فى نهر النيل ومنه بريًا إلى ميناء القلزم (السويس) ليركب نفس السفينة مع الحاج المسلم للإبحار إلى ميناء الطور القديم منذ العصر المملوكى والذى استمر نشاطه حتى عهد أسرة محمد ومن ميناء الطور يتجه الإثنين لزيارة الأماكن المقدسة بمنطقة جبل طور سيناء حيث دير طور سيناء والذى تحول اسمه إلى دير سانت كاترين فى القرن التاسع الميلادى وفى الأودية حوله مثل وادى حجاج نقش الحجاج المسيحيون أسماءهم كما نقش الحجاج المسلمون أسماءهم فى محراب الجامع الفاطمى داخل الدير الذى بنى فى عهد الخليفة الآمر بأحكام الله عام 500 هـ 1106م وبعدها يظل الحاج المسيحى ممن وجهته جبل طور سيناء هناك ويستكمل الحاج ممن وجهته طور سيناء والقدس طريقه إلى القدس ويعود الحاج المسلم إلى ميناء الطور القديم ليبحر عبر خليج السويس والبحر الأحمر إلى جدة ومنها إلى مكة المكرمة.
موكب الحجيج
كان موكب الحجيج عبر سيناء منظومة حضارية متكاملة داخل مجتمع متنقل حيث يقود القافلة أمير الحاج وهو القائد العام للقافلة كلها، وكانت مهمته اختيار زمن التحرك وسلوك أوضح الطرق وترتيب الركب فى المسير والنزول والحراسة وقتال من يتعرض للقافلة ومن أشهرهم الأمير سلار نائب السلطنة ، وكان أميرًا للحاج عام 703هـ وكان له فضائل عديدة حتى عم الخير فدعوا له "يا سلار كفاك الله شر النار".
وكانت هناك حكومة مصغرة ترافق موكب الحجيج، تضم ممثلا للسلطة العسكرية وهو أمير الحاج والسلطة القضائية وهو قاضى المحمل، ووزارة التموين ممثلة فى شاد المخازن والكيلار (القبانى)، للتقسيم العادل للمؤن طوال الرحلة ومشرفون على ملء المياه وتوزيعها ونظافة الأوعية الجلدية التى تحمل فيها المياه وهم شاد السقائين ومهتار الشراب خانه ومهتار الطشت خانة ومشرفون على طهى الطعام مثل شاد المطبخ والطباخون.
وكانت وزارة صحة متنقلة ترافق الحجيج، وتضم طبيب صحة وجراح (الجرائحى) وطبيب عيون وبعض الأدوية علاوة على الطب البيطرى،حيث كان هناك شخص مهمته مراقبة الدواب وحالتهم الصحية يطلق عليه أميراخور ومعه طبيب بيطرى،علاوة على الخدمات المرتبطة بالموكب.
بالإضافة إلى وجود مقدم الضوئية بموكب الحجيج وهو قائد حاملى المشاعل التى توقد بالزيت وبعضها بالخشب، ومقدم الهجانة الذى يشرف على أكسية الجمال التى تتصف بشيء من الأبهة للحرص على جمال القافلة أثناء السير، وهناك الشعراء وهناك الميقاتى لتحديد مواعيد الصلاة والمؤذن والوظائف الصغيرة كالخباز والنجار ومغسلى الموتى.
كما كان هناك رجل إعلام يرافق موكب الحجيج يمثل أول وكالة أنباء فى التاريخ، وهو شخص مكلف بالكتابة عن كل أخبار الرحلة وما صادفهم من صعوبات ومشاكل وعدد الوفيات،وهو أول من يسرع إلى الحاكم بعد عودة الحجيج سالمين ليقدم تقريرًا كاملًا عن الرحلة.
لم تخل الرحلة من المشاعر الروحية الفيّاضة، فكان يرافق الموكب الشعراء الذين كانوا يترنمون بالأشعار الدينية فى جو البادية الممتدة، والتى تمنحهم الخيال الخصب برؤية الكعبة المشرفة أمامهم طوال الرحلة تنادى على عمارها فيلبون النداء لبيك اللهم لبيك.