شم النسيم : حين تنطق الأرض بالحياة عيد الخلود في ذاكرة المصريين والكون
كتبت - دكتوره ميرنا القاضي
في لحظة تتفتح فيها الأرض عن سرها، وتغني الطبيعة نشيدها الأبدي، يخرج المصريون إلى النور، حاملين في قلوبهم طقسًا عمره آلاف السنين، اسمه "شم النسيم".
لكن شم النسيم ليس مجرد عيد للربيع
بل هو طقس كوني قديم، بدأ في مصر الفرعونية كاحتفال بالخلق، واستمر حتى اليوم كأحد أقدم الأعياد المستمرة في التاريخ الإنساني، لا يزال يُحتفل به بنفس الروح وإن تغيرت الكلمات والأسماء.
من "شمو" إلى شم النسيم: ومن بيضة الخلق إلى الفسيخ والزهور.
أصل شم النسيم يعود إلى كلمة "شِمُو" (šmw) في المصرية القديمة، وهي تعني "الحر" أو "النور" أو "القيظ"، وكانت تطلق على فصل الحصاد في التقويم المصري الذي قسَّم السنة إلى ثلاثة فصول: آخت (الفيضان)، برت (البذر)، شمو (الحصاد).
وكان "شمو" أيضًا يرمز إلى النهوض والتجلي والخروج من الظلمة إلى النور حيث اعتبره المصريون لحظة ميلاد الشمس من جديد، وعودة النظام الكوني بعد شتاء الفوضى.
احتُفل بشم النسيم في الاعتدال الربيعي حين تتساوى ساعات الليل والنهار، وتبدأ الشمس رحلتها الصاعدة في السماء.
في ذلك اليوم، كان الكهنة يراقبون لحظة الشروق من المعابد، وعلى رأسها معبد الإله آمون في الكرنك، حيث تمر أشعة الشمس في محورها لتعلن بدء زمن الحياة.
كانت شمس رع تُبعث من العالم السفلي والكون يُستعاد من الفوضى، والحياة تبدأ من جديد.
الطقوس المصرية القديمة: كل زهرة لها معنى، وكل طعام يحمل سرًا
لم تكن طقوس شم النسيم عشوائية
بل محمَّلة بالرموز الدينية والعقائدية:
ـ الخس: نبات مقدس يرمز إلى الخصوبة والطهارة، وكان يُزرع في حدائق معبد آمون.
ارتبط بالإله "مين" رب الذكورة والخصب.
ـ البصل: اعتُبر رمزًا للحماية من الأرواح الشريرة، وكان يُستخدم لطرد المرض في طقوس طبية ودينية.
ـ السمك المملح (الفسيخ): يمثل الخلود والبقاء، لأنه يظل محفوظًا لفترة طويلة وكان يُستخدم في القرابين الجنائزية.
ـ البيض الملون: يعود إلى عقيدة
"بيضة الخلق" التي خرج منها الإله "آتوم" ليخلق الكون. وكان يُلون بألوان الطيف كرمز للتنوع الكوني.
وكان المصريون يخرجون إلى الضفاف ويقضون اليوم في الحدائق المقدسة بجوار النيل، يعلقون الزهور على صدورهم
ويرددون أناشيد للحياة والنور.
شم النسيم بعد الفراعنة: بقاء الروح وتبدّل الملامح
بعد دخول المسيحية إلى مصر، لم يختف شم النسيم، بل تم دمجه مع عيد القيامة المسيحي، ليصبح يوم الاثنين التالي له.
وعلى الرغم من أن المسيحية لم تأخذ منه سوى الإطار الزمني، فقد بقيت الطقوس المصرية حية: البيض الملون، الفسيخ البصل، الخروج للطبيعة .
كلها مظاهر تمسكت بها الروح الشعبية المصرية، وأعادت إنتاجها في سياق اجتماعي لا ديني.
ثم جاء الإسلام، ورغم عدم ارتباطه بالعيد، استمر المصريون في الاحتفال بشم النسيم، ليصبح بذلك عيدًا قوميًّا شعبيًّا جامعًا، يشارك فيه المسلمون والمسيحيون على السواء، ويُعد نموذجًا فريدًا على قدرة الثقافة المصرية على احتواء الزمن لا محوه.
شم النسيم في مرآة العالم: حين يحتفل البشر بنفس المعنى بأسماء مختلفة
ما فعله المصريون في شم النسيم، فعلته شعوب أخرى بلغاتها وأساطيرها، لأن الربيع هو اللحظة التي يُولد فيها الكوكب من جديد، ويحتفل الإنسان بأنه جزء من هذا البعث الأبدي.
1. نيروز – إيران (الفرس القدماء):
يعني "اليوم الجديد"، ويبدأ مع الاعتدال الربيعي.
كان مرتبطًا بالإله "أهورا مزدا"، ويستمر 13 يومًا.
يُزين فيه البيت بالمائدة السباعية
(سبع عناصر رمزية للخصب)، منها العدس
والخل، والثوم.
2. عيد آشتار – بلاد الرافدين
(العراق القديم):
احتفال بعودة الإلهة عشتار من العالم السفلي، رمز الحب والخصب.
كانت تقام طقوس جنسية رمزية في المعابد لتجسيد ولادة الحياة.
3. هولي – الهند:
"مهرجان الألوان" وهو احتفال شعبي كبير يرتبط بالربيع والانتصار على الشر.
تُشعل فيه النيران، وتُرش الألوان على الأجساد في طقس جماعي يرمز للبهجة والتجدد.
4. إستر (Easter) – أوروبا المسيحية:
رغم أنه عيد ديني يرمز لقيامة المسيح
إلا أن تقاليده مثل "البيض والأرنب" تعود لرموز خصب وثنية.
اشتُق الاسم من "إيسترا" أو "أوستارا"
إلهة الربيع الجرمانية.
5. مهرجان سيزاريا – روما القديمة:
عيد مكرَّس للإلهة "فلورا" إلهة الزهور، يُقام في أواخر أبريل.
كان يُحتفل فيه برش الزهور في الشوارع وتقديم القرابين للربيع.
حين يزهر المصري من داخله
شم النسيم ليس مجرد تقليد فرعوني، بل هو احتفال مصري بفكرة الحياة، بفصولها المتكررة، ونورها المتجدد، وذاكرتها التي لا تموت.
هو عيد الإنسان حين يلتقي بالطبيعة دون حواجز، ويتنفس من قلبه طقوسًا صنعها الأجداد لا بالكلام، بل بالإحساس والفطرة والانسجام مع الكون.
في كل زهرة يضعها المصري خلف أذنه
في كل بيضة يلونها الطفل، في كل فسيخة تُؤكل رغم التحذيرات، تقف روح المصري القديم مبتسمة، وتشدو الأرض من جديد: "ها قد عاد الربيع، وعدنا نحن
كما كنا، وكما سنكون"

