"مسار الخرمة" درة جبال الشراه الطبيعية مع الرحّالة العالمى عبد الرحيم العرجان
كتب د.عبد الرحيم ريحان
سلسلة حضارية بين المسارات التاريخية في الأردن الشقيق تنفرد بها حملة الدفاع عن الحضارة برئاسة الدكتور عبد الرحيم ريحان
"مسار الخرمة" جسرٌ حجريٌّ كبوابة نور يفتح لك عبر جبال الشراه على الأفق البعيد بوادي عربة في مسارٍ أعاد إحياء المكان والعودة إلى زمانٍ ومكانٍ لم تمسَّه يد المدنية فبقي على حاله بعذرية الطبيعة وما شاء الخالق وهو إضافة جديدة لسلسلة المسارات الراجلة وإحياء التراث والمحافظة عليه في الأردن
يروى لنا الرحّالة الأردني العالمى الأستاذ عبد الرحيم العرجان رحلة مسار الخرمة بأسلوب أدب الرحلات
بعد بلدة الطيبة، الطيبةِ هواءً وأهلاً والراجف بلدةِ الأراضي الواسعة المشرفة على وادي عربة، أرضِ الرمال وكنوز الطبيعة أخذنا الطريق الترابي نحو منطقة السمان مرورًا بعرقوب الغنيمات والعديد من أطلال الآثار وسلاسل المدرجات التي احتضنت بساتين وكروم أجدادنا العرب الأنباط وإخوتهم الأدوميين وصولًا إلى سطوح المنقطعة نهايةِ الطريق الترابي المتعرج الذي يمتد 6 كم، ومع كل منعطف كنتَ تحتار بين النظر إلى القباب الصخرية وقمم الشواهق من حيث أتينا.
درة المسار
بعد تعليمات السلامة وأخذ مستلزماتنا وكميات كافية من الماء تقدَّمنا قائدُ المسار معالي الرحّالة الدكتور فارس بريزات رئيس مجلس مفوضي سلطة إقليم البترا الذي اهتم باستحداثه وأشرف على أدق تفاصيله مع الحرص على المحافظة على الطبيعة دون أي استزادة.
انطلقنا نحو وادي خرمة المنسوب اسمه إلى أجمل المشاهد التي سنصل إليها بمعية أعضاءٍ من جمعية مسعودة أهلِ المكان وذوي الخبرة والمعرفة بتفاصيل الدرب.
وبين أشجار البطم المعمِّرة وفوق قبابٍ صقلتها مياه البحر العظيم قبل أن يجف في سالف الزمان تاركًا فيها بلورات الكوارتز وخام السيليكا، التقطت عدسات جوالاتنا الجمالَ بين قلب الوادي وقمم الشواهق الكرميدية التي تلونت بفعل خام الحديد وأثر الريح والماء والمطر فشكّلت واجهاتها عناقيدَ أشبه ما تكون بالشمع المذاب وفجواتٍ توحي لك بسرياليتها كأنها مخلوقات أو توريقات أبدعها أمهرُ الفنانين وأساتذة النحت في مدارس الحداثة والتجريد.
أخذتنا الدروب عبر ممراتٍ ودرجاتٍ مهدها أبناء المكان بالمطارق والأزاميل بفطريةٍ توارثوها عن أجدادنا الأنباط وصولًا إلى درجٍ أخفى ما بعده مفاجأة الطريق: “الخرمة” الجسر الحجري المتربع بعَظَمةٍ كالتاج فوق قمة الجبل يشدك للنظر إليه بإجلالٍ لهذا المشهد المهيب وفي قرارة نفسك تتساءل: كيف كان؟ وكيف تشكّل؟
كان أسفله استراحتنا الأولى تحت ظلِّه حيث تأملنا المشهد من خلال عينه الواسعة والطبيعة تتجلّى بذكر عظمة الخالق والفخرِ بما حبانا الله به من جمال معتزين بهذا المشروع الوطني السياحي الذي يجسد رؤية جلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين لأهمية هذه الصناعة واهتمام ولي عهده الأمين الحسين بن عبدالله حفظهما الله.
البئر القديم وأثر القليعة
لم نترك المسار إلا بعشرات الصور صاعدين سلسلة من الدرجات المستحدثة وصولًا إلى بئرٍ قديم انتشل بدلوِه رئيسُ الإقليم ماءً أعاد إلينا الانتعاش شارحًا لنا عمقَه وأسلوبَ نقبه (النجاصة)، وكيف أن أجدادنا عملوا على طليه بالملاط الصلب لتسكير المسام خشيةَ أن يتسرب ماؤه عبر الصخر الرملي ليبقى حتى نهاية شهور الصيف مرويًا ظمأ العابرين، أشار إلى أثرٍ بالجوار لا يزال يحتفظ بشيءٍ من الأطلال والكثير من كسر أواني الفخار السميك.
وعبر المدخل الغربي الضيق كان نزولنا إلى قاعدة الجبل بفارق ارتفاع 120 مترًا بين القاعدة والقمة حيث كانت استراحةُ الشاي وإفطارُنا في بداية وادي الرملة الذي سُمِّي بذلك بسبب رماله وكثبانه الذهبية التي ذرتها الريح.
وادي أمشيط وعينه العذبة
وبعد المسير على جلاميدَ صماءَ تلونت بدرجات الكرميد وأثرِ الكبريت الأصفروخضرةِ خام النحاس أصبح على يسارنا وادي أمشيط العميق حيث كنّا نلتقط الصور عند كل زاوية حتى بلغنا العين العذبة الجارية الحاملةَ لنفس اسم الوادي.
وبظل الأشجار المحيطة كانت استراحة الشاي المُعطَّر بالشيح بعد مسيرٍ راجلٍ بلغ 7 كم دون أن نشعر بعناء الطريق من فرط الجمال وكثرة التفاصيل وتنوعها المتفرد في المكان والمنطقة قاطبة.
ركوب الإبل
وبما أننا في البادية حيث الإبل رمزٌ للحياة وأهلها كانت لنا تجربة أخرى باعتلاء ظهورها لنصل إلى نقطة النهاية صوب بيت الاستضافة العامر قرب طريق دلاغة المعبّد مرورًا بوادي أبو عروق حيث المساكن البدوية ومراح الإبل والحلال.
استقبلونا بحفاوة وترحاب وكرمٍ كبير ممن نعتز بمقامهم وحكمتهم من وجهاء وأصحاب الرأي السديد، وكان من بين الحضور سعادة السفير الكندي وممثلة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي حيث تكلل اللقاء بحوارٍ حول تنمية المنطقة والوطنية والانتماء.