الدنيا لسه بخير ، من يوميات الكاتبة والروائية د . سعدية العادلي
ما زلت كما أنا، أذكرها بالخير
نعم إن الدنيا بخير
اليوم ،في تمام الساعة الحادية عشرة مساءًا ، كنت في فراشي متعبة ومجهدة أبحث لابنتي الكبرى، الدكتورة إيمان، عن طبيب مختص في المخ والأعصاب، بعدما أصيبت بذبحة. ظهرت نتيجة أشعة الرنين على المخ، وكان التقرير يشير إلى انكماش في الغدة النخامية. أصابتني الدهشة، فقد كنت أتوقع بعد وعكتها الصحية الأخيرة أنها ذبحة صدرية، حيث ظهرت عليها جميع أعراض الذبحة، ولكن بالفحص والتحاليل لم يظهر أي أثر لوجودها.
حمدت الله، ولكن القلق ما زال مسيطرًا عليَّ، وما زلت أتضرع بالصبر والتماسك واظهار القوة. وبعد أربعة أيام من التحاليل ورسم القلب والإيكو والأشعة المقطعية على القلب، ثم الأشعة المقطعية على المخ جاء التقرير، مما دفعني للبحث جديًّا عن طبيب مخ وأعصاب أو طبيب متخصص في الغدد.
رنّ هاتفي، قاطعًا صمتي المؤلم وهدوئي المصطنع. نظرت إليه، فوجدت على الشاشة اسم صديقة لي أحبها وأحترم شخصيتها الهادئة الرزينة، لكني أشفقت عليها من أن تسألني عن سبب غيابي عن الساحة الأدبية، وعدم متابعتي للفيديوهات أو التفاعل مع الدعوات لحضور الندوات. أشفقُ عليها، فقد فقدت ابنتها الوحيدة منذ عام وما زالت تعاني ألم الفقد ولوعة الفراق.
لم أرد على الاتصال، لكنها تابعت وقررت أن تراسلني، فكتبتُ لها على الواتساب: "عذرًا صديقتي، أنا مشغولة بمرض ابنتي إيمان، وسأتواصل معك قريبًا إن شاء الله"
فردّت عليّ قائلة:
خير بعد الشر، ما بها الدكتورة إيمان؟
وأمام إصرارها على مشاركتي همي والتخفيف عني، تواصلنا، وحكيت لها ما حدث. طمأنتني، ثم أرسلت لي اسم وعنوان طبيبة ماهرة كانت قد خاضت معها تجربة مرضية لابنها منذ سنوات وما زالت تتابعه حتى الآن. على الفور، اتصلت بالطبيبة، لكنها لم ترد، وبعد حوالي عشر دقائق رنّ هاتفي مجددًا وظهر اسم الطبيبة. تحدثنا، وفعلاً تم الحجز في اليوم التالي بعدما ذكرت لها ملخص ما حدث لابنتي، وطلبت مني إحضار جميع التحاليل والأشعات للاطلاع عليها.
سبحان الله، شعرت بالاطمئنان وراحة نفسية لمجرد حديثي معها، رغم أنني لم أرها حتى الآن. أرسلتُ لابنتي وزوجها لأطمئنهما بأنني قد حجزت موعدًا مع طبيبة إنسانة بحق.
أردتُ أن أنام قليلًا لتهدأ آلامي، لكن نفسي الموجوعة بالكثير من المشاكل غلبتني.
ومع تقدمي في السن وحالتي الصحية أصبحتُ عاجزة عن تقديم المساعدة الفعلية لتخفيف الآلام عن أبنائي وأحفادي خاصة بعد فقدان السند، زوجي رحمه الله.
فوجئت بحركة في الغرفة، وسمعت صوت ابني يسألني عن دواء للضغط، فقد كانت زوجته متعبة جدًا وضغطها مرتفع. لا أدري متى غفوت ولا كيف مرّ بي الوقت، لكنني وجدت نفسي قبل الفجر في معية الله وهو ملجئي وسلواي ليل نهار.
في الصباح، تواصلت معي الإعلامية الأستاذة مروة عبد المنعم، وقالت لي:
"إن شاء الله موعدنا اليوم، سأحضر للذهاب إلى البنك وإتمام الإجراءات التي تعطلت بسبب مرض الدكتورة إيمان".
حاولتُ تأجيل الموعد، لكنها أصرت على مواصلة ما كانت تفعله إيمان لإتمام إجراءات مؤسسة أقلام للثقافة والفنون والتنمية، والتي يتكون مجلس إدارتها من الدكتورة إيمان، ابنها نور الدين، الأستاذة مروة، ابنها زياد، وأنا كرئيسة مجلس الإدارة. كنا قد قطعنا شوطًا كبيرًا في إنهاء الإجراءات الإدارية الطويلة والمملة، ولم يتبقَّ سوى دفع المبلغ المطلوب في البنك وانتظار الإشهار بعد الموافقة الأمنية.
لما كانت الأستاذة مروة مقربة مني بحبها لي وإخلاصها، فقد أصبحت واحدة من الأسرة، تشاركنا أفراحنا وأحزاننا. بعد محاولات، لم أستطع رفض إصرارها على الحضور، رغم انشغالي بأحفادي أبناء الدكتورة إيمان، وتحضير ما ينقصهم من طعام، خاصة ونحن في فترة الامتحانات.
سألتهم عن الطعام الذي يحبونه ويفتقدونه، فأجابوا: "محشي كرنب مع اللحم المحمر والشوربة الساخنة". شرعتُ في إعداده بمساعدة زوجة ابني، فيما كان زوجها يضيف البهارات ذات الرائحة الزكية. كنت ألفّ أصابع الكرنب في عجالة بينما أتابع تحركات الأستاذة مروة عبر الهاتف، وهي تتنقل من وسيلة مواصلات إلى أخرى. كنت أوصيها بأن تأخذ بالها من نفسها أثناء عبور الطريق، مما أثار ضحك ابني الذي قال مبتسمًا:
"يا ماما، لا تنسي أنك تتحدثين مع صحفية!"
،فأجبته: "نعم، لكنها طموحة، مجتهدة نشيطة، ترى الإنجاز في كل خطوة تخطوها"
حكيتُ له عن المرات التي تعرضت فيها الأستاذة مروة لمشاكل صحية مفاجئة بسبب عملها المتواصل، ومنها حادث سقوطها في حفرة أثناء خروجها من معرض الفنون التشكيلية، وأخرى عندما أغمي عليها في المترو بسبب انخفاض ضغطها الشديد نتيجة نسيانها تناول أي طعام طوال اليوم .
اتصلت بي تطمئنني أنها وصلت إلى البنك ثم عادت إليّ سعيدة وهي تحمل الموافقة لكن المشكلة أن الخطاب كان باسم الدكتورة إيمان، لذا كان علينا الانتظار حتى تتماثل للشفاء. رغبتها في رؤيتي دفعتها للحضور، فوجدتها أمامي، ما شاء الله، جميلة كالقمر، ترتدي أجمل الثياب وأفخر حقيبة يد والإكسسوارات ذات الألوان المتناسقة .
جلست قليلًا، ثم استأذنت للذهاب إلى معرض الكتاب، حيث لديها بروتوكول عمل مع دار المعارف، ولابد من تواجدها لتغطية الحدث للصحيفة التي تعمل بها.
مع اقتراب الساعة السابعة مساءً، حاولت الاتصال بها للاطمئنان، لكنها لم ترد.
عاودت الاتصال بعد قليل، فلم ترد.
وبعد ساعتين، اتصلت مجددًا، وهذه المرة ردّ عليّ رجل قائلًا:
"أنا المسعف الذي نقلها إلى مستشفى معهد ناصر، ومعي حقيبتها وبعض كتبها، واسمي رضا"
أخذت منه رقم هاتفه وأخبرته أنني والدتها وسأتدبر الأمر.
شعرتُ أن الأرض تدور بي، ناديت حفيدي عز الدين ليبحث لي عن أرقام زميلاتها المقربين، لكن للأسف لم يرد أحد.
عثرت على رقم ابنها الكبير، لكنه استقبلني بحفاوة قائلاً: "ماما لم تأتِ بعد، إنها في الطريق".
كنت في حيرة، هل أخبره بما حدث؟ سألته عن والده، فأجابني أنه نائم.
بحثتُ عن رقم مدير الصحيفة التي تعمل بها، وبالفعل عثرت عليه.
اتصلت به، فنزل على الفور بصحبة زوجته وذهبا إلى المستشفى، حيث استلما الأشعات ورسم القلب والتحاليل، ثم اتصل بي ليطمئنني أنها في طريقها إلى منزلها.
حمدتُ الله على سلامتها، يا له من يوم مرهق غريب بأحداثه.
هاتفني ابني مرارًا، لكنني لم أرد، مما أثار قلقه، فحضر بنفسه ليطمئن عليَّ.
وعندما سمع ما حدث، ابتسم وقال لحفيدي :
" مبروك مؤسسة أفلام للآداب والفنون والتنمية"
فرد عز الدين ضاحكاً :
تقصد أقلام ؟!
رد ابني: بل أفلام وليست أقلام.