من أين جاءت عبارة تكسر وراه قلة؟
من أين جاءت عبارة تكسر وراه قلة؟
بقلم : دكتورة ميرنا القاضي
باحثة في علم المصريات والشرق الأدنى
من أين جاءت عبارة "اكسر وراه قلة"
التي نقولها على شخص رحل ولا نريده أن يعود مرة أخرى؟
دعني ألقي بعض الضوء على هذه القلة المكسورة، وأحكي لك قصةً تنسجم مع أسرار مصر القديمة ورموزها المفقودة.
في أعماق الصحاري القاحلة، حيث يتلاشى الزمن وتتداخل الأبعاد، تكمن قلةٌ من الفخار ، إنها ليست مجرد قلة مكسورة
بل هة مفتاحٌ لعالمٍ آخر ، تحمل عبق الأزمان وتراجع الألفيات، وعلى سطحها تنسج قصصًا مفقودة وأسرارًا مشفرة.
تلك القلة كانت شاهدةً على لحظاتٍ مهمة على أحداثٍ تاريخيةٍ مرَّت كالأمواج الهادرة، ربما كانت في يد رجل يتأمل النجوم، أو كاهن يحمل أماني الآلهة
أو حتى في يد محاربٍ يبحث عن الخلود.
ماذا تخفي هذا القطعة المكسورة؟
هل هي مفتاحٌ للحكمة والخلود؟
أم ربما تحمل لعنةً تنتظر من يكسرها؟
فلنتسلل معًا إلى أروقة الزمن، ولنكشف عن أسرار هذه القلة المكسورة
هل أنت مستعد؟
تأتينا من مصر القديمة عادة فريدة استمرت عبر العصور ، تحمل في طياتها حكاية قوية ورمزية، إنها العبارة الشهيرة 'اكسر وراه قلة' التي نستخدمها للإشارة إلى شخص رحل ونتمنى أن لا يعود مرة أخرى.
تعود أصول هذه العبارة خلال فترة الاضمحلال وتحديدا فى عصر الأسرة الثالثة عشرة للحضارة المصرية. كانت تلك فترة مليئة بالتحديات السياسية والاقتصادية، حيث اضطر الحكام إلى فرض ضرائب إضافية على الشعب المكلوم.
وفي تلك الأوقات الصعبة، لم يجد الناس حلاً إلا الشكوى للكهنة وكان الكاهن يصنع قُلة مصنوعة من الفخار، تحمل شكل الشخص الذي يرغبون في إبعاده وعدم عودته مرة أخرى ، ثم يكتبون تعاويذ ولعنات باللون الأحمر على تلك القُلة، ليتم بعدها ملؤها بالماء وكسرها، ويعتقدون أن ذلك سيحقق رغبتهم في إبعاد تلك الشخصية الضارة.
واستمرت هذه العادة حتى الأسرة الثامنة عشرة، لدرجة أن الملوك ظلوا يفعلون ذلك مع أعدائهم، وفي أحد معابد
"أمنحتب الثالث"
وجدوا رسما له وهو يكسر القلل خلف جيش الاعداء.
ومع مرور الزمن تحول الامر الى عادة جنائزية ، عند دفن الموتى وهي دفن الأواني معاهم فيها متاعهم للحياة الاخرى وفيها اعضائهم لو هيتحنط وكذلك تعاويذ حماية وأشيائه الخاصة ظنا منهم إنها بتحتوي على جزء من روحه.
وكان إذا مات أحد من أهل البيت يأخذون من بيته أواني فخارية (قلة) ويذهبون إلى المكان الذي سيدفن فيه أو مدفون فيه فيكسرونها ويدفنونها بجانبه ظنا منهم أنه باقي روحه اللي قد تركها في المنزل وسيحميهم كسرها خلفه من العودة إلى المنزل مرة أخرى للبحث عنها وإيذائهم.
وبالفعل تم العثور على بقايا الاواني المتكسرة فى بعض المقابر ، والمصطلح الهيروغليفى للعملية دى هو
"سد، دسر، وت" وكلمة "سد" تعني كسر و"دسر" اللون الأحمر و"وت" جمع إناء يعنى "اكسر الآنيةالحمراء"
وكانوا بيستعملوا اللون الأحمر فى كتابة التعاويذ بإعتباره من الألوان الشريرة والمهلكة لارتباطه بالقتل والدم !
انتشرت العادة فى العصر اليوناني والروماني ايضا ، فكانوا في الجنازات ياكلوا ويشربوا في الاواني الفخارية وبعدين يكسروها ويدفنوها مع الميت .
قطع الاوانب المتكسرة اسمها "شُقف" جمع "شقفة" ومن هنا جت تسمية مقابر
"كوم الشقافة"
في مدينة الإسكندرية اللى بتضم مقابر من العصرين المصري القديم والروماني وتم العثور عليها سنة 1900 ولقوا فيها كمية كبيرة متراكمة من الشقف .
ومن هنا، نجد أنفسنا نرث هذه العبارة القوية 'اكسر وراه قلة' التي تحمل في طياتها تاريخًا عريقًا وتراثًا قديمًا.
فعندما نستخدمها اليوم، فإننا نحتفظ بجزء من تلك الحضارة القديمة إنها إحدى العجائب الجميلة للإنسانية أن نتوارث عادات وتقاليد تحمل القوة والرمزية في حياتنا اليومية.
فليكن هذا الكسر هو نهاية الحكاية، وبداية لأخرى ، فقد انطلقت الأرواح إلى أبعد الأفق حاملةً معها أماني الخلود فلنترك القلة تحت الرمال، ولنستمر في البحث عن أسرار جديدة، وقصصٍ أخرى تنتظر أن تُروى فالزمن لا يعرف النهاية، والأرواح تستمر في رحلتها، حتى وإن كانت في قلة مكسورة.