أفرع النيل واقع ديني وأثرب والحضارة نشأت على ضفافها
كتب - د . عبد الرحيم ريحان
أشارت الحقائق الدينية والأثرية إلى النهر الجاف المكتشف قرب الأهرامات
أفرع النيل
ذكر فى سورة الزخرف آية 51 والذى ذكر فيها اسم مصر وملك مصر متحدثًا عن عدة أنهار " وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي"
وكان للنيل سبعة أفرع في مصر، جفت منها خمسة، الفرع البيلوزي الذي كان يمر بسيناء والتانيتى والمنديسى، والفاتنيتى (فرع دمياط حاليًا) والسبنتينى والبلبتى والكانوبى (فرع رشيد حاليًا) وبالتالى فمنهم هذا النهر المكتشف، وقد جفت هذه الأفرع نتيجة مكافحة الفيضانات وانجراف التربة
وأشار المصرى القديم إلى النيل وأفرعه المتعددة، فكلمة النيل نفسها مشتقة من أصل مصري "نا إيترو" وتعني النهر ذو الأفرع، وأطلق على مجرى النهر اسم "حبت إنت إيترو"، وأطلق على فروع النيل في أرض مصر "إيترو نوكيمت" وتعنى فروع الأرض السوداء
بردية وادى الجرف
وتكمن الحقيقة الأثرية فى الكشف الهام لبعثة آثار مصرية فرنسية مشتركة برئاسة بيير تالييه وسيد محفوظ عملت منذ عام 2011 بميناء وادى الجرف على البحر الأحمر، وعثرت عام 2013 على مجموعة رائعة من البرديات عند مدخل المغارات كانت مدفونة بين الكتل الحجرية التى تم استخدامها لإغلاق المغارة بعد الانتهاء من العمل.
وكانت تلك المغارات تستخدم كورش عمل ومخازن وأماكن سكنية، وكان هذا الموقع مستخدمًا فى عهد الملك خوفو وأن فريق العمل الذى كان يعمل فى هذا الموقع هو نفسه الذى عمل فى بناء الهرم الأكبر وهذا يدل على وجود جهاز إدارى على درجة عالية من الحرفية لإدارة البناء فى عهد خوفو
تشير بردية وادى الجرف إلى تفاصيل كاملة عن طريقة بناء الهرم الأكبر وأسماء عمال البناء، وهناك بردية تخص أحد كبار الموظفين ويدعى "مرر" تحكى يوميات فريق العمل الذى كان يقوم بنقل كتل الحجر الجيرى من محاجر طرة على الضفة الشرقية للنيل إلى هرم خوفو عبر نهر النيل وقنواته ومنهم بالطبع هذا النهر المكتشف والقنوات التى تخرج منه
كما أشارت البردية إلى نقل آلاف العمال المهرة 170 ألف طن من الحجر الجيرى عبر نهر النيل فى مراكب خشبية مربوطة بالحبال من خلال نظام قنوات أنشئت لهذا الغرض تفضى إلى ميناء داخلى على بعد أمتار قليلة من قاعدة الهرم، وقد قام العمال بتغيير طبيعة المكان بحفر خنادق عملاقة لتوجيه مياه النيل إلى الهرم عبر قنوات صناعية، كما عثر على لفافة من ورق البردى بميناء وادى الجرف أضافت رؤية جديدة للدور التى لعبته المراكب فى بناء الهرم، وكل هذا يؤكد وجود هذا الفرع من النيل قرب الأهرامات، وقد كان هناك فرعًا للنيل أقصى الشرق فى سيناء وهو الفرع البيلوزي وأطلق على المدينة التى تقع عليه بيولوزيوم "الفرما" بمعنى الأرض اللينة وهناك قرية حتى الآن تسمى "بلوظة" كان بها أول تفتيش للآثار الإسلامية والقبطية بسيناء، وقد ذکر الفرع البيلوزى العديد من المؤرخين والجغرافيين في العصور الکلاسيکية، وكان صالحًا للملاحة حتى عام ٣٣٢ ق.م، عندما دخل الإسکندر مصر حيث أدخل أسطوله من خلال هذا الفرع الفرع
وكان العمال يتسابقون طواعية في العمل على قطع الأحجار من المحاجر، ونقلها والاشتراك في أعمال البناء، وقبل البدء في بناء الهرم قامت الحكومة ببناء مدينة للعمال والفنيين وسوقا للتموين ومخبزًا ومخازن للغلال، وبالتالى فإن المدن حتى ولو كانت بصفة مؤقتة وقد استغرق بناء الأهرامات فترات كبيرة فلا بد أن تكون قريبة من مصادر المياه كسائر الحضارات، بل وارتبطت حياة المصريين بالنيل فى كل شىء لدرجة التقديس ونشأة حضارتها على ضفافه
النيل والحضارة المصرية
أقام قدماء المصريين عيدًا لوفاء النيل يقيمون شعائر وصلوات مقدسة، حتى يصب عليهم حابى بخيراته وحين تتعرض البلاد لموسم الجفاف، وارتبطت كل مفردات الحضارة بالنيل الذى ساعد المصريين في تكوين مجتمعات صغيرة، يتعاون أفرادها في الزراعة ثم اندمجت هذه المجتمعات وشكّلت كيانًا أكبر اتحد في عهد الملك نعرمر (مينا) فظهر أول شكل مترابط سياسيًا واجتماعيًا للأراضي المصرية بفضل النيل، وارتبط النيل بصيد الأسماك، فابتكروا القوارب كوسيلة للصيد والمواصلات، وسجّلوا العديد من المشاهد المائية على جدران المقابر، التي كانت توضع بداخلها أسماك النيل لتقديمها قرابين مع المتوفى في العالم الآخر.
وأكد المصري في اعترافاته الإنكارية في العالم الآخر ما يفيد عدم منعه جريان الماء في الفصل 125 من نص "الخروج إلى النهار (كتاب الموتى)" نقلًا عن الترجمة الفرنسية للعالم بول بارجيه: "لم أمنع الماء في موسمه، لم أقم عائقًا (سدًا) أمام الماء المتدفق"، وفي نص مشابه على جدران مقبرة "حرخوف" في أسوان عدّد صفاته أمام الإله من بينها "أنا لم ألوث ماء النهر...لم أمنع الفيضان في موسمه...لم أقم سدًا للماء الجاري...أعطيت الخبز للجوعى وأعطيت الماء للعطشى".
كما كان النيل حاضرًا فى قصائد الشعراء"عشق حبيبتي على الشاطيء الآخر، النهر يفصل بيننا، المياه تندفع بشدة في زمن الفيضان، والتمساح واقف رابض فوق شط رملي، لكنني أنزل إلى الماء وأغوص وسط الأمواج، إن قلبي قوي فوق النهر، والتمساح يبدو لي كالفأر، الماء تحت قدمي أشبه باليابسة، إن حبي لها هو الذي يمنحني القوة، كأن وجودها قد سحر الماء، أنا لا أدري سوى رغبة قلبي وهي تقف أمامي".