المسحراتي ، حكايات رمضانية
كتب د. عبد الرحيم ريحان
إرتبط المسحراتى بموروثات شعبية عبر التاريخ حيث كان المسحراتى فى العصر العباسى يحمل طبلة صغيرة يطبل عليها مستخدمًا قطعة من الجلد أو الخشب ومعه طفل أو طفلة صغيرة معها شمعة
أو مصباح لتنير له طريقه، وكانت النساء تترك له على باب منازلهن قطعة نقود معدنية ملفوفة داخل ورقة ثم يشعلن أحد أطرافها ويلقين بها إلى المسحراتى الذي يستدل على مكان وجودها من ضوء النار فيدعى لأصحاب البيت ويقرأ الفاتحة.
وفى نهاية الشهر الكريم كان يلف المسحراتى على البيوت التى كانت تعتمد عليه فى السحور ليأخذ أجرته وكان من المعتاد أن ينشد المسحراتى شعرًا يسمى
" قوما" نسبة الى قيام الليل لتناول السحور وكان مشهورًا إنذاك ومثال لذلك الشعر"لا زال سعدك جديد.. دائم وجدك سعيد، ولا برحت مهنا.. بكل صوم وعيد، لا زال ظلك مديـد.. دائم وبأسك شـديد، ولا عدمنا سحورك.. في صوم وفطر وعيد.
وتعددت وسائل وأساليب تنبيه الصائمين وإيقاظهم للسحور منذ عهد الرسالة والى الآن ففي عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفون وقت السحور بآذان بلال ويعرفون المنع بآذان ابن أم مكتوم فقد كان هناك أذانان للفجر أحدهما يقوم به بلال وهو قبيل الوقت الحقيقى للفجروالثانى يقوم به عبد الله بن أم مكتوم
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن آذان بلال ليس موعدًا للإمساك عن الطعام والشراب لبدء الصيام وإنما هو آذان للمسلمين لتناول طعام السحور حتى يسمعوا آذان ابن أم مكتوم فجاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم
" إن بلالًا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم " وروى أحمد " لا يمنعن أحدكم آذان بلال من سحوره فإنه يؤذن ليرجع قائمكم وينبه نائمكم "
فقد كان آذان بلال بمنزلة الإعلام بالتسحير في شهر رمضان وما كان الناس في المدينة يحتاجون إلى أكثر من ذلك للتنبيه على السحور .
ويشير الدكتور على أحمد أستاذ الآثار الإسلامية بكلية الآثار جامعة القاهرة إلى إنه على مر العصور ومع اتساع رقعة الدولة الإسلامية وتعدد الولايات بدأت تظهر وسائل أخرى للسحور وبدأ المسلمون يتفننون فى وسائله وأساليبه حتى ظهرت وظيفة المسحراتى فى الدولة الإسلامية فى العصر العباسى ويعتبر والى مصر عتبة بن إسحاق أول من طاف شوارع القاهرة ليلًا فى رمضان لإيقاظ أهلها إلى تناول طعام السحور عام 238هـ /853م وكان يتحمل مشقة السير من مدينة العسكر إلى الفسطاط مناديًا الناس " عباد الله تسحّروا فإن فى السحور بركة "
وينوه الدكتور على أحمد إلى ظهور التغني بشعر " القوما " فى العصر العباسي للتسحر وهو شعر شعبى له وزنان مختلفان، الأول مركب من أربعة أقفال ثلاثة متوازية فى الوزن والقافية والرابع أطول منها وزنًا، وهو مهمل بغير قافية وغلب عليه اسم القوما من قول بعض المغنيين لبعض " نياما قوما .. قوما للسحور أو قوما لتسحر قوما "
واخترع هذا الشعر بغدادي يدعى أبو نقطة للخليفة الناصر لدين الله العباسي وأعجب الخليفة به وطرب لاستماعه وكافأ أبا نقطة بإجراء عطاءً سنويًا عليه وعندما مات أبو نقطة خلفه ولده الصغير وكان حاذقًا لنظم القوما فأراد أن يعلم الخليفة بموت أبيه ليأخذ وظيفته فلم يتيسر له ذلك فانتظر حتى جاء رمضان ووقف فى أول ليلة منه مع أتباع والده قرب قصر الخليفة وغنى القوما بصوت رقيق رخيم فاهتز له الخليفة وانتشى وحين هم بالانصراف انطلق ابن أبي نقطة ينشد "يا سيد السادات لك فى الكرم عادات أنا ابن أبي نقطة تعيش أبي قد مات" فأعجب الخليفة بسلامة ذوقه ولطف إشارته وحسن بيانه مع إيجازه فأحضره وخلع عليه ورتب له من الأجر ضعف ما كان يأخذ أبوه.
ولم تقتصر مهنة المسحراتى على الرجال فقط كما يعتقد البعض فكما أن هناك المسحراتى فهناك أيضًا "المسحراتية"، ففى العصر الطولونى كانت المرأة تقوم بإنشاد الأناشيد من وراء النافذة في وقت السحور لإيقاظ أهالى البيوت المجاورة لها كما كانت المراة المستيقظة فى وقت السحور تنادى على جاراتها لإيقاظهن.
وفى العصر الفاطمى أصدر الحاكم بأمر الله الفاطمى أمرًا بأن ينام الناس مبكرين بعد صلاة التراويح وكان جنود الحاكم يمرون على البيوت يدقون الأبواب ليوقظوا النائمين للسحور ومع مرور الأيام عين أولو الأمر رجلا للقيام بمهمة المسحراتى كان ينادى يا أهل الله قوموا تسحروا ويدق على أبواب البيوت بعصا كان يحملها فى يده تطورت مع الأيام إلى طبلة يدق عليها دقات منتظمة.
أمّا فى العصر المملوكى كادت مهنة المسحراتى أن تتلاشى تمامًا لولا أن الظاهر بيبرس أعادها حيث عين أناسًا مخصوصين من العامة وصغار علماء الدين للقيام بتلك المهمة وكانوا يحشدون من وراءه الأطفال الصغار ومعهم الفوانيس والشموع وتعرف طبلة المسحراتي بـ "البازة" إذ يُمسكها بيده اليسرى وبيده اليمنى سير من الجلد أو خشبة يُطبل بها في رمضان وقت السحور.
والبازة عبارة عن طبلة من جنس النقارات ذات وجه واحد من الجلد مثبت بمسامير وظهرها أجوف من النحاس وبه مكان يمكن أن تعلق منه وقد يسمونها طبلة المسحر والكبير من هذا الصنف يسمونه طبلة جمال.
ويردد المسحراتى بعض الجمل بإيقاع متناغم رخيم ويطوف المسحراتى الشوارع والأزقة والحارات بفانوسه الصغير وطبلته التقليدية التى ينقر عليها نقرات رتيبة عند باب كل بيت وهو ينادى صاحب البيت باسمه يدعوه للاستيقاظ من أجل السحور ووحدوا الدايم سحور يا صايم.






