اقرأ التفاصيل
recent
أخبار عاجلة

كل يوم كتاب  " في منزل الوحي "

 كل يوم كتاب  " في منزل الوحي "




 " في منزل الوحي "



بقلم الكاتب الصحفي

 ا . محمد سيد بركة



صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب طبعة جديدة من كتاب "في منزل الوحي" للأديب محمد حسين هيكل، الذي ألَّفه بعد عودته من رحلة الحج، والكتاب في حقيقته وصف دقيق لوضع الجزيرة العربية سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا وتاريخيًّا في نصف القرن العشرين الميلادي من وجهة نظر أديب ومثقف وأحد أركان النهضة الأدبية والفكرية في مصر والعالم العربي حتى منتصف القرن الميلادي الماضي، ومصدر قيِّم للمحقّقين عن وضع الحجاز في هذه الفترة، والكتاب هو ضمن كتب رحلات الحجّ يتناول بالتحليل والتفسير الوقائع ودوافعها، وهو إلى جانب ذلك بقلم من تأثّرَ بتعاليم الغرب وثقافته، ويقيّم ضمن التزامه بدينه والمبادئ التي يؤمن بها من المستجدّات وينقدها.

العَودة إلى الذات

 بَدَأ هيكل حياته متأثرًا بالحضارة الغربية ومنجزاتها، كواحد من دعاتها المفتونين بها، ثم انصرف عنها بعد أن ضعفت ثقتُه بها حين شاهد دعاة الحضارة والإنسانية يتحولون في أثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1918م) وبعدها إلى وحوش كاسرة، لا ترعى للشعوب حقًّا، ولا تُقيم للحقوق وزْنًا، ثم اتجه إلى الدعوة إلى الحضارة الفرعونية داعيًا لها، معتبرًا إياها النموذج الخالد للحضارة الكاملة، ثم حدث ما جعله يدعُ ذلك كله بعد أن اجتاحت مصر حملات التنصير سنة (1352هـ/ 1933م) دون خوف أو وَجَل، وهاله أن نفرًا من الكُتَّاب وأصحاب الأقلام يهوِّنون من أثر هذه الحملات، فهاجمها بكل ضراوة، وهاجم الحكومة المصرية على صمتها المهين وتهاونها في التصدي لتلك الحملات، وبدلًا من أن تقوم الحكومة بواجبها في مواجهة التنصير استدعت هيكل للتحقيق، وحُكِم عليه بغرامة مالية بتهمة الوقيعة بين رجال الأديان بعد أن أعلن أن إدارة الأمن الإنجليزي في وزارة الداخلية هي التي تتحمَّل تبعة هذه الجرائم، وكانت هذه الحملة وراء التغيُّر الذي حدث لهيكل ونقطة التحوُّل في حياتِه بعد أن انكشفت له وسائل الغرب في خداع الشرق ومحاولة الازدراء بماضيه الثقافي والحضاري، فاتجه إلى التراث الإسلامي مطالعًا كتبَه ومؤلفاتِه، باحثًا عن الحقيقة التي يسعى لمعرفتِها والوقوف عليها والتزوُّد منها، وكان كتابه الرائع حياة محمد صلى الله عليه وسلم أول ثمرة هذا التحوُّل، كتبه بأسلوب طليق ومنطق دقيق وعرض شائق، وكان فتحًا في ميدان كتابة السيرة النبوية تابعه فيه غيره من كتاب مصر وأدبائها.

هذا التحوُّل جعله عرضةً للنقْد من بعض الكتاب الذين ساءهم هذا فقال حسب هؤلاء أنني انقلبتُ بكتابة السيرة رجعيًّا، وكنت عندهم قبلها في طليعة المجددين، وكيف لا أنقلب عندهم رجعيًّا وقد جعلتُ القرآن حجتي وما جاء فيه عن السيرة سندي، ولم أضعه كما يقولون موضع النقد العلمي.


ثم قدم اعترافًا خالصًا وشهادةً صادقةً عن فشل ما كان يدعو إليه من قبل وعدم جدواه بقوله: لقد حاولتُ أن أنقل إلى أبناء لغتي ثقافة الغرب المعنوية وحياته الروحية لنتخذها جميعًا هديًا ونبراسًا، ولكنني أدركتُ بعد لأْيٍ أنني أضع البذر في غير منبته، فإذا الأرض لا تتمخض عنه ولا تبعث الحياة فيه، وانقلبتُ ألتمسُ في تاريخنا البعيد في عهد الفراعين موئلا لوحي هذا العصر، فإذا الزمن وإذا الركود العقلي قد قطعا ما بيننا وبين ذلك العهد من سبب قد يصلح بذرًا لنهضة جديدة، ورويت فرأيت أن تاريخنا الإسلامي هو وحده البذر الذي ينبت ويثمر، ففيه حياة تحرّك النفوس وتجعلها تهتز وتربو.

السَّفر إلى الحجاز

يَذكر هيكل أنه في أثناء تأليفِه لكتابه حياة محمد صلى الله عليه وسلم استشعر بحاجته إلى الذهاب إلى بلاد الحجاز لاستكمال بعض البحوث الخاصة بالسيرة النبوية، لكن هذه الأمنية تأخَّرت بضع سنين حتى عزم الذهاب إلى أداء فريضة الحج في سنة 1355هـ / 1936م، بعد تردُّد أمسك به، وخوف اعتراه من طبيعة الحياة التي كانت عليها بلاد الحرمين آنذاك، ومن مشقة في التنقل بين أرجائها، لكنَّه حسم أمره في نهاية الأمر، واستحضرت نفسه مشهد المسلمين وهم مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجّة الوداع، فامتلأت نفسه رهبًا وقلبه إيمانًا، واشتدّ به الشوق إلى أداء الفريضة.

وقال لنفسه: بعد أيام سأركبُ البحر قاصدًا بيت الله حاجًّا، فإذا بلغت رابغا ميقات الإحرام أحرمت وأحرم المسافرون للحج كما أحرم النبي وأصحابه، ونادى ركب الباخرة جميعًا "لبيك اللهم لبيك"، وامتلأت النفوس جميعًا هيبة والقلوب إيمانًا... رب أية شعلة من نورِك الذي أضاءت له السموات ستشمل هذه الباخرة في اندفاعها تمخر العباب إلى بيتك يلبي ركبها كلهم دعاءك، وتتجه قلوبهم كلها إليك صادقة القصد عامرة الإيمان.. لن تكون هذه الباخرة في تلك الساعات القدسية مطيّة أجسام تجري فوق الماء، بل قبسًا من ضياء الهدى ونور الحق أفضته على عبادك فعادوا به إليك مهللين مكبرين..

تحركت الباخرة "كوثر" بركابها متجهةً إلى ميناء جدة، وكان على متنها الأميرة خديجة حليم، شقيقة عباس حلمي خديوي مصر، التي ذهبت لأداء الفريضة، وانشغل الحجاج بالصلاة والدعاء والذكر والتلبية ولبس ملابس الإحرام، ونسوا من شئون الحياة كل شيء سوى الحج ومناسكه، وعاشوا في أجواء إيمانية رجالًا ونساءً، منتظرين نزولهم على شاطئ جدة والذهاب إلى مكة لإدراك صلاة الجمعة في الحرم، ولأداء طواف العمرة وسعيهم بعد الصلاة كيْمَا يحلّوا إحرامهم إحلال التمتع ليحرموا بعد ذلك للحج.

وبعد نزوله جدة انطلقت به السيارة مسرعةً إلى مكة، وفي الطريق كانت قوافل الحجاج تترى من المشاة والركبان وهي كما يقول هيكل تقصد إلى غاية واحدة وترجو في ربها الرجاء الأسمى، وهم جميعًا سواسية في اتجاههم، سواسية في إيمانهم، سواسية في تفكيرهم، ليس يَذكر أحدهم مَا لَه من ثروة أو جاه أو ولد، وإنما يذكر أنه وهؤلاء المسافرين معه إخوة في الله؛ وأنهم جميعًا قد أتوا قاصدين بيته ملبين داعيَه ليشهدوا على أنفسهم وليطهروا بين يديه مما قدمت أيديهم، وليبدءوا بذلك حياة جديدة.

ولما وصل هيكل إلى مكة كان الليل قد انتصف وحلَّ الظلام بالمكان، لكنه لم يرغب في تأجيل زيارة بيت الله الحرام إلى الصباح فقد اشتدَّ به الشوق إلى رؤية الكعبة والوقوف أمامها خاشعًا متبتلًا، فاتجه إليها على الفور.

أَمام الكعبة

 وقد صوَّر هيكل هذا اللقاء الأول مع الكعبة تصويرًا يفيض رقة وحنانًا فقال: تبدَّت لي الكعبة قائمةً وسط المسجد فشُدَّ إليها بصري وطفر قلبي ولم يجد عنها منصرفًا، ولقد شعرت لمرآها بهزة تملأ كل وجودي وتحركت قدماي نحوها وكلي الخشوع والرهبة، وقلت: اللهم أنت السلام ومنك السلام، وارتسمت صورة البيت أمام بصيرتي منذ أقام إبراهيم وإسماعيل قواعدَه مثابة للناس وأمنًا.. حتى إذا بلغت الكعبة اندمجت في المسنين الذين يطوفون بها وهم مثلي في ملابس الإحرام وأعلنتُ نية الطواف ببيت الله المكرم سبعة أشواط طواف العمرة.. واندفعت أستغفر وأطلب إلى الله الهداية، وأتممتُ الأشواط السبعة وأنا أكبِّر الله وأحمده وأستغفره، وأنا مأخوذ بجلال هذا البيت العتيق ممتلئ النفس خشوعًا، يفيض قلبي إيمانا بالله الذي جمع في هذه البقعة الضيقة من الأرض كل هذا الجلال وكل هذه المهابة.

ثم يقول: ودلفتُ بعد الأشواط السبعة إلى مقام إبراهيم أصلي فيه ركعتين، ثم استغفرتُ ربي لي ولأهلي ولمن دخل بيتي مؤمنًا وللمؤمنين والمؤمنات، ثم انتقلت إلى حجر إسماعيل وأقمت نفسي بين اثنين يصليان ورفعت يدي أنوي الصلاة.. إذ وقع بصري على رجال أشِدَّاء أقاموا في إحرامهم ورفعوا أيديهم إلى أعلى السجف من أستار الكعبة، فتعلقوا بها متشبثين لا يتركونها وقد ألقوا برءوسهم إلى وراء، فشخصت أبصارهم إلى السماء تستغفر الغفور الرحيم، وأقمتُ هنيهةً أنظر إلى هؤلاء أسائل نفسي عما صنعوا ليكون ذلك موقفهم منه، وأنا معجب بإيمانهم إذ لا يجدون ملجأً من الله إلا إليه، ولا يجدون ملجأً إليه خيرًا من التعلُّق بأستار بيته المحرم.. وأقمت مكاني في الحجر فإذا من حولي فيه لا يكاد أحدهم يتركه حتى يحلّ غيره محله وكأنما نسوا أن الليل انقضى ثلثاه أو أكثر من ثلثيه وبقيت زمنًا في مثل نسيانهم مأخوذا بما حولي مقدسًا إياه، ملقيًا وراء ظهري ما عودنا التفكير الحديث من تعلق الحاضر المحسوس وحده، ومن مبالغة في هذا التعلق إلى إنكار ما وراء المحسوس من معنى ينتظم الوجود ويسمو على الزمان والمكان، وزادني موقفي توجهًا إلى الله، فدعوته راجيًا أن يستجيب، واستلهمته الهدى إلى الحق والخير والفضل وتبتُ إليه من الآثام، وأشهدته على نفسي أنه هو رب التقوى ورب المغفرة...

ثم قام هيكل إلى السعي بين الصفا والمروة حتى تتمَّ شعائر العمرة، والناس من حوله يدعون ويستغفرون، بعضهم فرادى وآخرون يسيرون جماعات متشابكة الأيدي، وقد ارتفعت في جوف الليل أصواتهم جميعًا في خشوع وضراعة، وفي لهجات مختلفة منها البدوي النجدي ومنها ما تشوبه عجمية تدلُّ على أن العربية ليست لسان أصحابه الأصيل، وبعد أن أتم السعي قص بعض شعرات من رأسه وتحلَّل من إحرامه.

وقد أفاض هيكل في تصوير مشاعره وهو يقوم بأداء مناسك الحج، في لغة عذبة مليئة بأرق العواطف وأنبل المعاني، ولم يترك موقفًا من مواقف الحج إلا تطرَّق إليه، وربطه بتاريخه القديم وما كان يفعلُه النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في مثل هذه المواقف وهو يؤدي فريضة الحج، وفي مخيلتِه صورة النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجِّه ودعائه، وهو ما جعل فؤاده يعمر بالإيمان، ونفسه تمتلئ سكينة وطمأنينة، وروحه تحلِّق في عالم سماوي لا يحدُّه زمان ولا مكان.

لقد تعلَّق هيكل بربه وخالقه، يناديه ويناجيه بأصدق دعاء وأخلص كلمات، وبعد أن انتهى من أداء فريضة الحج توجَّه إلى المدينة لزيارة المسجد النبوي الشريف، والصلاة في الروضة الشريفة، والوقوف على قبْر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سجل عواطف المحبة، وأشواقه الرقيقة منذ أن نزل المدينة حتى غادرها، فصور مشاعره حين وقعت عيناه لأول مرة على القبة الخضراء، وحين خطا أولى خطواته إلى المسجد النبوي، وحين بلغ الحجرة الشريفة ووقف قبال قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- شاخصًا ببصره مأخوذ الذهن عن التفكير من رهبة المكان وجلال الموقف.

وفي غمرةِ زيارته للمسجد النبوي تفجر على لسانه مناجاة صادقة أمام قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهي تنطق بصدق مشاعره في هذا الموقف، وتترجم بما كان يموج في قلبه من حب وشوق لصاحب الروضة الشريفة، وهي مناجاة طويلة أقتطف بعضًا منها:

السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، أشهد أنك رسول الله الواحد الأحد حقًّا وصدقًا، وأنه بعثَكَ للناس كافة بالهدى ودين الحق، هديتهم بأمره ألا يعبدوا إلا إياه مخلصين له الدين حنفاء... أشهد أنك رسول الله بعثك بالهدى ودين الحق، علمتنا بأمره ووحيه أن عبادة الله ليست خضوعًا، إنما هي إسلام لله عن إيمان صادق ابتغاءَ رضاه عن صالح ما نعمل، والتماسًا لعفوه عما نضلُّ فيه السبيل.


وبعد أن أتَمَّ نجواه انصرف من المسجد طامعًا في مغفرة الغفور لذنبه، واستعد للرجوع إلى مصر مودِّعًا مدينة رسول الله وهو يقول: ربّ هبْ لي من لدن رحمتك أن أعود إلى هذه المدينة فأزور هذه الحجرة المباركة، أذكر فيها أشد الناس حبًّا لهدي الناس، وأشهدك على حبي إياه أكثر من حبي نفسي.

عند قراءة كتاب هيكل في منزل الوحي تذكرتُ رحلة طه حسين (1889 -1973 م) إلى الحج ومناجاته لرب العزة عند الطواف قائلًا : اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررتُ وما أعلنت، أنت إلهي، لا إله إلا أنت.

ويمتلئ كتاب هيكل ببحوثه التاريخية الرائعة عن بناء الكعبة وتاريخها القديم وعمارتها، وعن آثار مكة ومساجدها القديمة وقبورها، مثل غار حراء وغار ثور ومقبرة المعلاة ومسجد الراية ومسجد الجن، ودار الأرقم بن أبي الأرقم، وكذلك حديثه عن آثار المدينة المنورة وبخاصة المسجد النبوي وتطوره المعماري عبر العصور، واهتمام المسلمين بعمارتِه وتجديدِه، ودار عثمان بن عثمان، ودار أبي أيوب الأنصاري، ومسجد الغمامة ومسجد السقيا، ومسجد الإجابة، ومقابر البقيع وقبر حمزة، وغيرها.

وفي نهاية الكتاب يقول هيكل: لقد حالت الحوائل دون مسيري في أثر الرسول إلى الشام حيث ذهب صبيًّا، وإلى خيبر حيث ذهب نبيًّا، فلعل الله يهيِّئ لي من بعد أسباب هذا السير فأستكمل به غرضًا هو اليوم أجلُّ أغراض الحياة عندي، وأزداد به إيمانًا وتثبيتًا وأنعم به في ظلال الحياة الروحية الوارفة وأبلغ من ذلك ما سعدت به من الرضا حين جاورتُ البيت الحرام وحين زُرتُ قبر النبي عليه الصلاة والسلام، "إن الله وملائكته يصلُّون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا".

والكتاب ممتعٌ ومفيد لما تضمن من معلومات وأخبار، وهذا ما يجعله وثيقةً أدبية وتاريخية مهمَّة وفي الوقت نفسه شهادة لم يكتمْها المؤلف وكان في بادئ أمره داعيةً إلى الغرب وحضارته يلتمس فيها الرقي والإصلاح، فلما تكشفت له الحقيقة راجع نفسه، وكان طالب حق، ووجد ضالته في الإسلام وحضارته؛ فأعلن ذلك في غير مواربة أو خجل؛ فكان رائدًا لا يكذب قومه.

google-playkhamsatmostaqltradent