قصة " الحمامة الفضية "
بقلم منال خليل
- أنا وأحمد صديقين منذ أن وعينا على لعب الشارع بعد الغداء وحتى المغرب
سهر ليالي رمضان و عمل تعاليق زينة الشارع
الجامع الملون الكبير
والشرايط المثلثات بطول الشارع ..
ماتشات الكرة الشراب
عم دسوقي المسحراتي الذي كنا نراهن سينادي اسم من منا الأول للسحور
كنا حريصين أن نكون زملاء دراسة وحتى الجامعة بنفس المكان مشاغباتنا ومغامراتنا وأسرارنا الصغيرة بقلب بعض
أخته ناريمان جميلة الشارع وسيدة قلبي، أول حب بحياتي لم أبح بمشاعري
دائماً ماكنت أكتب رسائل الحب بدفتر
ذي أزهار ملونة أحتفظ به حتى الآن شاهد على تطورات حبي
ناريمان أخت صديقي والصداقة دين ورجولة، تربينا على حُرمة الأخوة والبيوت..
فاكتفيت بالنظرات والحلم لحين الوقت المناسب كنا ومازلنا جيران بالبيت المقابل أراهم من شرفة الصالة بالبيت
دائما ماكنت أحب أن أزورهم ببيتهم
أشعر بدفء ما، بشعور جامح بالحب بأرجاء المنزل.. تفاصيله وأركانه،
طريقه استقبال والديه والهدوء الحىّ الذى يلف المكان
ألمح طرف ناريمان وضفائرها الذهب ، ابتسامة مغلفة بالحياة لو صادف وفتحت الباب
عيوني بالأرض لكني أراها بروحي
- كنت أنتظر يوم وليلة عمل الكحك والقرص والبسكوت من السنة للسنة، ولمة بيت الست أنيسة ومعها والدتي لنجتمع كلنا ونتشارك حمل صاجات الكحك للفرن البلدي بنهاية الشارع
كان العم إبراهيم يساعدنا، وناريمان تساعد في نقش الكحك .. كنا نتبادل النظرات وبعض من الحديث
كان العيد بالنسبة لنا هو ليلة عمل الكحك
صوت النقشبندي وأغانى سيد مكاوي ..
كان الفطار من عندنا والسحور ببيتهم وصلاة الفجر جماعة
كنت أستمتع جدا بمشاهدة
عم إبراهيم وطنط أنيسة كل يوم خميس بعد العصر
هو بالبنطلون الكحلي والقميص الأبيض زي الفل والجاكيت مغلق الأزرار، مشيته معتدة، تراه دائما معتز بجوهرة عمره وهي تسير بجانبه يدها تعانق يده
وهي دائما مختالة بالفستان المزركش وفي يدها حقيبة سوداء أنيقة وحقيبة أخرى بها ترموس شاي وبعض من الحلوى البيتي
متجهين صوب الحديقة العامة .. بميعاد مع شجره الصفصاف الوحيدة وكأنها تخصهما وحدهما
عم إبراهيم يفتح كيس بلاستيك به قمح وعيش مكسر ينثره أرضا للحمام
طنط أنيسة تصب الشاي بكوب لعم إبراهيم وتناوله قطعه من الكيك بالزبيب البيتي
جالسين بهدوء، ذراعه تربت على ظهرها من وقت لآخر
وهي تنظر له بابتسامة رضا وامتنان
وينطلق صوت الراديو الصغير على إذاعة الأغاني حتى تأتي تلك الحمامة البيضاء
انا وأحمد ابنهما الكبير مرت علينا أيام الصبا كبرنا معاً تخرجنا واشتغلنا،
وناريمان الصغيرة بآخر سنة بالجامعة
بالنسبه لي ناريمان مازالت تلك الطفلة ذات الضفائر الذهب ... فاتحت والدتي برغبتي في الزواج منها في حين أن الأسرتين كانتا على علم غير معلن بوجود شيء يجمعنا
كنا بانتظار لحظة تخرجها ، كنت دائما ما أتمنى أن أحظى معها بما كان يجمع أبويها من علاقة رائعة وكأنهما أيقونة الحي والحب
كانوا يقطنوا ببيت بالدور الثالث بشارعنا بالعجوزة أراهما دائما محافظين على نفس ارتباطهما ببعضهما، ونفس الطقوس المقدسة بنفس الميعاد
كان لهم يوم أو نصف يوم يخصهما وحدهما فسحتهما وحدهما متعانقا الأيدي بحب وألفة وبلا خجل
كنت أشعر بأن مشيتهم وأيديهم تتواصل وتتحدث بوقع نغم معين نفس الخطوة بنفس الحماس لم تتغير
شاب الشعر من العم إبراهيم ولربما تخفي الست أنيسة بعض الشعرات الفضيه بالحنة على شعر ناعم مرفوع فوق رأسها ولكن لم يشيب القلب أو الروح أبدا
" كنت على يقين أن الخير والحب لن ينقطعا أبدا لطالما هذه الأيدي تعانق الاخرى "
- كنت وحيد أبي ولكني لم أر مثل هذه العلاقة أو الارتباط ببيتنا، أبي كان يسكن إلى كنبة الصالة أكثر مما يختفي بفراش غرفة نومه
أمي سيدة طيبة، ولكنها عادية بكل الأشياء .. عادية العاطفة والإمكانيات والحديث أيضاً
بيتنا كان يفتقد لتلك الحرارة التي تنبعث من ذلك البيت المقابل ..بموجاته الحميمية التي يرسلها لنا عبر الشرفة أو خلال الزيارات
- مر على ذلك البيت الصغير ذو الثلاث حجرات والصالة البسيطة من المشاكل والصعوبات والتحديات الكثير
ولكن نادرا ما كان يمر يوم على الست أنيسة دون أن تنتظر عودة العم ابراهيم وعينها على الطريق من الشباك ... كانت تجري من الشباك إلى الباب تستقبله بضحكة وقبلة على خده ويردها ابراهيم بقبلة على كف يد أنيسة
تأخذ منه كيس الفاكهة أو ما كان يجود به عند عودته من الشغل. كل شئ منه كان حلو ويفرح قلبها
كانت تحوم حول ابراهيم منطلقة وكأنها من عُمر ابنتها
مهما كان الخلاف كانت الست أنيسة حريصة أنه يذوب بغرفتهما بالفراش، وممنوع أن ينام إبراهيم زعلان منها
- لو غابت ابتسامته أو أنطلقت من عظامه آه ألم .. تتوجع بجانبه أكثر منه فكان يداري أي ألم عنها
إبراهيم أيضا كان حب أنيسة قلبه يرجعه لحضنها ..طالب قربها وودها
كان النهار يطلع وانيسة وردة منورة ..نورها ينعكس على وجه إبراهيم وحياته وهي توقظه
محضرة له ملابسه والحمام دافئ،
مع الشاي وسندوتشات الجبنة الدمياطي بالطماطم والفلفل الحامي، مع مربى الجزر البيتي بحبات القرنفل وبيض محمر بالزبدة البلدي كما يحب إبراهيم بالضبط، ودائما العيش مقمر وساخن حتى في عز الشتاء، كان لأنيسة أسرارها فيما تعده بحب لإبراهيم
أول لقمة وأول معلقة أكل من يديها لفم ابراهيم وكأنه طفلها الكبير
كان الرضا هو دواء لكل صعب، يصحح مسار منحنيات صعوبة الحياة
إبراهيم وأنيسة كانا وكأنهما أصل الحياة ومعنى الزواج والشراكة
الحب لم يهدأ والمشاعر كانت تعلو وتنخفض ولكن لم تبرد يوما .. وإن شابتها شائبة كانت أنيسة لا تتنازل عن حقها فى ممارسة أنوثتها كاملة
فكان إبراهيم يرتد عن عناده ليصير لها ملكا على عرش مملكة خلقاها معا
مملكة بسيطة جدرانها تفهم .. وأعمدتها محبة
أرضها رضا وعين مليانة.
كان إبراهيم لا يرى إمرأة سواها فهي كل الإناث بعينيه،
وهو سيد الرجال وسيد الناس كما كانت تحب أن تناديه وهي تساعده على ارتداء بيجامته الساتان النبيتي المكوية على طرف الفراش
قبلها تكون هى مرتدية القميص الحريري الأحمر وهى تحاول أن تفلت من يده وضحكتها مجلجلة وهو يعاكسها :
"ماترقصي لي يا نوسة"
على أغنية شفت حبيبي وفرحت معاه
- "انا كبرت على الرقص يا إبراهيم"
- "كبرتي ده ايه؟ ده انتى أحلى من كل يوم والعمر عدى بس مجاش ناحيتك ولا حييجي انتى بقلبي وعيوني بنت بنوت"
كان العم إبراهيم والست أنيسة هم روح الحب وأصل الشراكة و المعنى الحقيقي لما نطلق عليه لقب زواج
في يوم خميس بارد لم تجاور خطوة العم إبراهيم خطوة الست أنيسة للنزهة المعتادة...
شاهدت طنط أنيسة بنفس الميعاد بنفس الفستان المزركش والشنطة بالطريق للحديقة
الست أنيسة صبت كوب الشاي الساخن من الترموس الأسود، وضعته بجانبها على المقعد الخشبي أسفل نفس الشجرة العجوز وفتحت كيس أكل الحمام
التف الحمام حول الأكل المنثور بالأرض
وغابت الست أنيسة مع حديث طويل مع إبراهيم وقد تمثل لها بسحابة تأبى أن تمطر في السماء .. حتى حطت تلك الحمامة الفضية بهدوء على كتف أنيسة ثم أنتقلت لساق إبراهيم تنظر إليهما معاً
هنا نظرت أنيسة لإبراهيم مبتسمة ومدت يدها لتعانق يده بلمسة حروفها : " أفتقدتك "
وأسندت رأسها على كف يدها بهدوء وراح النفس باتجاه تلك السحابة ...كان قد سبقها إبراهيم من شهر مضى .. طار الحمام يحلق بروحيهما إلى أقرب سماء مُرحبة
- براد الشاي وسقط الكوب معلنا حزن المقعد والشجرة .... الحديقة و أحجار الأرض والطرقات
" لربما غاب العم إبراهيم والست أنيسة ولكن لن تغيب ظلال حب مشهد أيادي تعانق الأخرى أبداً عن تشكيل جوانب وجداني "